منهجية القولة : "إن العنف هو القانون الوحيد للمجتمعات التي لا قانون لها"

 

منهجية القولة : "إن العنف هو القانون الوحيد للمجتمعات التي لا قانون لها"


القولة : "إن العنف هو القانون الوحيد للمجتمعات التي لا قانون لها".


منهجية القولة : "إن العنف هو القانون الوحيد للمجتمعات التي لا قانون لها"


تحرير الموضوع:


مقدمة:


"إن العنف هو القانون الوحيد للمجتمعات التي لا قانون لها". تدخلنا هذه القولة مباشرة إلى مجال السياسة من حيث هو مجال الصراع المرير بين العنف والقانون، غير أنه صراع يستدعي مفاهيم وممارسات متصلة بالعدالة والحق والمشروعية والشرعية في ممارسة العنف. تؤكد القولة وجود علاقة وثيقة بين العنف والقانون. فما هي طبيعة هذه العلاقة؟ وهل يمكن اعتبار العنف نتيجة حتمية لغياب القوانين في المجتمعات، كما تذهب إلى ذلك القولة؟ وهل تستطيع القوانين حقا أن تحد من ظاهرة العنف؟


التحليل:


تؤكد القولة أطروحة مؤداها أن غياب القوانين يؤدي بشكل طبيعي إلى العنف، وبالتالي تلح على وجود علاقة إقصاء وتباعد بين القانون والعنف. وهو ما يتأكد في حالة الطبيعة حيث يسعى كل فرد للحفاظ على حياته لأن الخطر يتهدده، ولكون الجميع يرغب في الشيء ذاته، ولكون العدوان يكون بالمرصاد للضعيف في حياته. ففي هذه الحالة التي يغيب فيها القانون الضابط للممارسات والعلاقات بين الناس، يتمتع الجميع بحرية طبيعية، غير أن هذه الحرية تكون متناسبة وقوة كل فرد؛ مما يعني بالضرورة سيادة منطق القوة، على اعتبار أن القوى غير متناسبة ولا متوازنة بين الأفراد والجماعات تبعا للظروف التي تميزها عن بعضها البعض. لهذا تبقى هذه الوضعية مطبوعة بالعنف الذي يعتبر المعيار الوحيد والأوحد للفرز ولفرض ما يعتبر "حقا". تبقى هذه القاعدة هي أساس قيام حرب الجميع ضد الجميع، وسيطرة القوي على الضعيف، والكبير على الصغير، والتصاق الإنسان بالهمجية والحيوانية في غياب الشرائع والأحكام، أي القوانين المحددة لعلاقات الأفراد والجماعات بذاتها وبغيرها. تحيل القولة، إذن على حقيقة أساس، وهي أن غياب القوانين لا يمكنه أن يكون إلا كارثيا على الإنسان، لأنه يستدعي بالضرورة العنف الذي يتحدد هنا باعتباره نقيض القوانين، وبالتالي ذلك الذي يملأ كل الفراغ الذي يتركه غياب القوانين.


مناقشة:


إن التنافي التام والأكيد بين القانون من جهة والعنف من جهة ثانية، هو في الحقيقة تناف مؤسس لكل اجتماع بشري، بل وترسيخ لإنسانية الإنسان العاقل، ذلك أن الحق المبني على التعاقد الإرادي والعقلاني يحد من العنف ويحول طبيعته، فيجعله عنفا ضد المجتمع بعد أن كان عنفا طبيعيا تقتضيه العلاقات الأولى البعيدة عن الاجتماع الإنساني المنظم والقريبة من الحياة "المتوحشة". ونضع وصف "المتوحشة" بين مزدوجتين لأن الحيوانات لا تعرف العنف بقدر ما هي محكومة بغرائز طبيعية تجعلها تعيش في انتظام معين غير واع بذاته، عكس الإنسان الذي يفكر. لكن هناك تفكير من داخل الحدود القانونية وتفكير من خارجها. فممارسة العنف من طرف الإنسان ضد إنسان آخر هي ممارسة مقصودة وواعية نوعا ما.

إن الالتزام بالضوابط والقوانين التي يتم التوافق بشأنها عن حرية، وتبعا لرغبة واعية في السلم والأمن الجماعيين، يجعل منه كائنا مدنيا تتحول حريته الطبيعية إلى حرية مدنية تضمن له ما تضمنه لغيره.

تتجلى غاية الدولة المثلى في الحرص التام على حماية القانون بالعمل به أولا، واحتكار ممارسة العنف حسب القواعد والمساطر المحددة لاستعماله، ولا يمكن لهذه الأخيرة أن تكون غير مساطر قانونية تقوم على أساس مشروعية عليا تضمن شرعية اللجوء إلى ممارسة العنف. وتعمل الدولة من خلال جهازها القضائي على تقنين مستويات التعامل معه، وتحدد له سلما يبدأ بالمخالفات، وينتهي بما يدخل في باب الجنايات، بما فيها الجنايات ذات الطابع السياسي. ولكن الدولة لا تحتكر استعمال العنف داخل ترابها فقط، بل قد تجد نفسها مضطرة لاستخدامه عند حدودها مع دولة أخرى، وفي هذه الحالة يكون العنف الممارس هنا حربا بين دولتين لأسباب سياسية أو اقتصادية أو عرقية. ولكن الخلاصة هي أن الدولة تبطل العنف داخلها باحتكاره واعتماده أداة شرعية لتحقيق الأمن والاستقرار للمواطنين الحاملين لجنسيتها، وقد تحميهم من الخطر الخارجي وما يحمله من عنف ضدهم، كالغزو مثلا.

ولكن هذه الملاحظة تقودنا إلى تسجيل التحفظ الآتي: إن الدولة ليست ملاكا، ولا تكون دائما حارسا أمنيا للقوانين، إذ قد تخرقها لمصالح طبقية أو فئوية معينة، فيكون استخدامها للعنف تعسفا وشططا في استعمال سلطتها، إن لم يكن تسلطا، كقمع مظاهرات المواطنين السلمية، واستخدام الذخيرة الحية ضد المدنيين العزل بدعوى الحفاظ على أمن وسلامة المواطنين وممتلكاتهم. في هذه الحالة، لا يكون عنفها مشروعا، ويدل على تعطل الآليات السياسية التي يعمل بها كل من المجتمع والدولة؛ فيكون مطلب الإصلاح أو الثورة بحسب ميزان القوى وشروط العمل، فيتغير أساس المشروعية التي ترسي ممارسة العنف، ويكون من المشروع لجوء المظلومين إلى القوة دفاعا عن النفس...


التركيب:


يظهر لنا من خلال تحليل ومناقشة هذه القولة العميقة أن علاقة المجتمعات بالقوانين علاقة مؤسسة للاجتماع البشري وللتعايش والتعامل بين الناس. ومن ثمة العلاقة الوثيقة بين القوانين والعنف، حيث يستدعي غياب القوانين العنف وينشطه. إنها علاقة تناف وتلازم، إذ وجود أحدهما يستلزم غياب الآخر. ولكن السياسة تكون فقط في علاقة بالقوانين وتدبير تطبيقها وإنتاجها، قبل ذلك لا تكون، لأن السيادة تكون لنقيضها المطلق، ألا وهو العنف. إنه الطابع الإشكالي والمعقد لعلاقة العنف مع القانون والحق مع القوة، وما يطرحه التفكير في هذا الإشكال من رهانات تهم أساسا دولة الحق والقانون.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-