منهجية القولة : إشكال العلاقة بين العدالة والإنصاف

 

منهجية القولة : إشكال العلاقة بين العدالة والإنصاف

 إشكال العلاقة بين العدالة والإنصاف

القولة :

 "تختلف العدالة عن الإنصاف من حيث إنها تحكم وفق حرفية القانون، بينما يحكم الإنصاف وفق الروح الذي يفترض أنه أساس القانون."

منهجية القولة : إشكال العلاقة بين العدالة والإنصاف



تحرير الموضوع:


مقدمة:


تطرح القولة موضوع العلاقة بين العدالة والإنصاف في سياق تطبيق القانون، وتفترض أن ما يميزها هو طبيعة العلاقة التي يقيمانها مع القانون، حيث العدالة هي التطبيق الحرفي للقانون، والإنصاف هو تطبيق القانون حسب روحه لا حرفيته. وبذلك تتأطر هذه القولة ضمن المجال العام للسياسة من حيث هو مجال تفاعل الحق والعدالة. فما مظاهر هذا التفاعل؟ وهل اختلاف العدالة عن الإنصاف يصل حد افتقار أولهما لثانيهما؟ سؤال يفترض الجواب عنه أن نشرح، أولا، مضمون القولة، ثم نبين هل تفتقر العدالة فعلا إلى الإنصاف؟ وإذا كان الجواب بنعم، فلماذا؟


تحليل:


منذ البداية، تقارن القولة، مقارنة تفاضلية، بين العدالة والإنصاف؛ وتدل هذه المقارنة بينهما، في الآن ذاته، على أن علاقتهما مسألة هامة بالنسبة لصاحب القولة، الذي ربما لا يستطيع الحديث عن واحد منها دون استحضار الآخر. وكأن التفكير في أحدهما لا يكتمل إلا بالتفكير في الآخر. والواقع أنه يفكر فيهما من موقع أو منطلق واحد هو تطبيق القانون. فهما معا يجسدان مسألة أساسية وحاسمة في حياة المجتمعات، ألا وهي تطبيق القوانين. وهذا يعطيهما، عند صاحب القولة، وضعا إيجابيا بناءً، فعلى هذا المستوى لا اختلاف بينهما في الجوهر؛ فهما معا مع تطبيق القوانين والعمل بها، وبالتالي فهما مع الشرعية. غير أن الاختلاف بينهما، حسب صاحب القولة، هو في كيفية تطبيق القوانين أو الحكم بها، فالعدالة تطبق القانون كما هو منطوق أو مكتوب، أي حسب حرفيته وعموميته، بما هي عمومية نابعة من المصدر الذي هو الإرادة الجماعية، ومن حيث هو موضوعه الذي هو عموم الناس. أما الإنصاف فهو تطبيق للقانون حسب روحه التي تقتضي الحكم العادل الموافق للحالة الجزئية التي يمثلها فعل ما، صدر عن شخص ما، في ظروف وملابسات جد خاصة ربما لم يلم بها القانون ذاته. إن العدالة مع حرفية القانون والإنصاف مع روحه. فمن أي يأتي الاختلاف بينهما مادام الأمر في النهاية يخص نفس الشيء، فقط في الحالة الأولى يكون وفق حرفيته، وفي الثانية وفق روحه؟ إن حرفية القانون تعني نصه أو منطوقه الذي ينبغي أن يكون واضحا لا ملتبسا، صريحا لا ضمنيا، دقيقا لا غامضا، مفهوما بشكل لا يفتح الباب لأي تأويل غير ما أراده المشرّع. وبالتالي تفترض صياغة القانون، عمومية تغطي جميع الحالات التي تدخل ضمن نطاق النص والعمل به بناء على ذلك الفهم من طرف جميع أفراد المجتمع، ما دام "لا أحد يعذر بجهله للقانون"، لا على تأويل كل طرف من الأطراف حسب مصالحه وأهوائه. يمكن القول، إذن، إن حرفية القانون تعكس وتضمن وحدة شكله التي لا بد منها ليكون القانون قانونا؛ والعدالة حيث تحكم بالقانون وفق نصه فهي تحترم شرط الشكل.


مناقشة:


غير أننا نعرف ان القانون ليس شكلا فقط، بل هو شكل ومضمون، وهما لا ينفصلان. ولكن الصياغة اللغوية للقانون مهما كانت دقيقة وصريحة وواضحة لا تشمل كل شيء، لأنها محدودة بحدود الكلمات، في حين أن مضامين الحياة الفردية والجماعية تبقى لا متناهية، وما يضبطه القانون لا يغطي كل الحالات الممكنة، وإن كان يحتاط ليؤطر أقصى ما يمكن منها. والمشكلة هنا هي أن مفهوم العدالة يبقى دائما مرتبطا بهذه المضامين الملموسة والغنية التي قد يظهر فيها ما هو عادل بالنسبة لهذا الطرف، وغير عادل بالنسبة للطرف الآخر. فقانون الملك "كريون" القاضي بعدم دفن كل قاتل ضد مدينته، هو قانون عادل بالنسبة له كحاكم، ولكن "أنتغون" تجده ظالما، لأنه يمنعها كأخت من تكفين أخيها ودفنه؛ فتخرقه وتتحداه باسم مبدإ أعلى هو ضرورة دفن الموتى، قبل أن يكون الميت هو أخوها.

يمكننا أن نأخذ مثلا آخر، ألا وهو قوانين التمييز على أساس ديني عرقي، كما هو الحال بالنسبة للصهيونية، أو على أساس اللون، كما هو الأمر بالنسبة لقوانين التمييز العنصري؛ فهذه القوانين تعتبر بالنسبة لواضعيها "شرعية" داخل نظامها الخاص، والعدالة هي تطبيقها تطبيقا حرفيا. ولكن شرعيتها لا تضمن لها أية مشروعية باسم المبادئ الأساسية لحقوق الإنسان التي تفترض أن لجميع البشر نفس القيمة، بغض النظر عن اللون أو الجنس أو العرق أو الدين. فـ"شرعية" هذه القوانين لا تضمن مشروعيتها، وبالتالي لا يمكن القول عنها إنها تعمل وفق مبدإ العدالة، أولا، باعتبارها تجسيدا للمساواة بين الناس في الحقوق والواجبات، وثانيا، باعتبارها تجسيدا لمبدإ تساوي الناس أمام القانون، على أساس أن لا أحد فوق القانون. على هذا المستوى لا مجال للإنصاف هنا، لأن العدالة هي نفسها موضع شك، ولا تتحقق، فبالأحرى الحديث عن الإنصاف. وقبل الحديث عن الإنصاف، يجب الحديث أولا عن ضرورة أن تكون العدالة قائمة على أساس مشروعية حقيقية معترف بها من طرف جميع من تعنيه تلك العدالة.


لكن هناك حالات لقوانين أخرى تكون قائمة على أساس مشروع، غير أن تطبيقها الحرفي يجعلها لا تطبق العدالة إلا من حيث الشكل، أما من من حيث المضمون فإن التفاصيل قد تفيد أن هناك نوعا من "الظلم" أو "التشدد في الحكم" الذي لا مبرر له، باعتبار الظروف القاهرة أو الملابسات التي أحاطت بالفعل المعني، وبالتالي ضرورة مراعاة هذه الظروف وتقديرها في تطبيق القانون، حتى يكون هناك إنصاف يجعل العدالة تحقق رسالتها كاملة. هنا الإنصاف هو تلك التكملة الضرورية لفهم القانون في الحالات التي تكون محكومة بملابسات، وبل تجعل الحكم مقبولا باعتباره حكما عادلا بدون أدنى شك، أي منصفا. بهذا المعنى، يمكن القول إن الإنصاف مكمل للعدالة إن لم يكن متضمنا في مفهومها الأساس، ما دام يكملها. ولكن لا يعني هذا أن العدالة إن لم يكن متضمنا في مفهومها الأساس، ما دام يكملها. ولكن لا يعني هذا أن العدالة تفتقد الإنصاف، بل إنها تستلزمه لتكون عادلة، ليس فقط حسب شكلها، بل أيضا حسب مضمونها الملموس المطبوع بالتعقيد اللانهائي لأفعال البشر ومقاصدهم، واختلاف شروطهم. وهنا يتدخل دور القاضي، باعتباره المسؤول الأول عن هذا العمل. ينبغي أن نتوقف، بعد هذا التحليل، عند مسألة مهمة جدا، ألا وهي، أن العلاقة عدالة / إنصاف / قوانين ليست علاقة بسيطة، بل هي علاقة معقدة بالنظر لطبيعة مشمولاتها. فالعدالة ليست ميكانيكيا معروفة القوانين والمبادئ والمكونات بشكل تام ومحدد، فهي سيرورة تاريخية مفتوحة تتطور في ارتباط بدرجة التطور المادي والأخلاقي للمجتمع، مما يحدد مضمونها، وقد يجعله يختلف حتى داخل نفس المجتمع حسب مراحل تاريخية محددة. فما يكون عادلا أو يقدم باعتباره كذلك لا يكون بالضرورة عادلا بشكل دائم وفي جميع الشروط، أي بشكل مطلق .

والقوانين نفسها لا تجسد مبدأ المساواة دائما، وإلا لما كانت هناك حاجة لتغييرها وإصلاحها والصراع من أجل ذلك. فعادة ما يرتبط إصدار القوانين بميزان القوى الاجتماعية الذي يحدد اتجاهها. وبالتالي فالقوانين نفسها لا تكون عادلة ولا منصفة لارتباطها بمصالح غالبة ومهيمنة على مصالح فئات أخرى داخل المجتمع. فالمساواة بصفتها قاعدة للعدالة، هي بناء معياري تاريخي اجتماعي، وليست جوهرا خالدا. ومن هنا الطابع الإشكالي لهذه العلاقة.

المسألة الثانية التي ستبقى دائما موضوعا للنقاش، هي الدور الذي يلعبه القاضي في تطبيق القوانين والعمل بها، وبالتالي في تحقيق العدالة والإنصاف. نعم، يمثل القاضي العدالة وينطق باسمها ويستند إلى قوانينها، لكن ذلك يبقى مشروطا بتكوينه التخصصي، ونزاهته الأخلاقية وتركيبة شخصيته، ودرجة استقلاليته، ودرجة استيعابه، ليس فقط لنصوص ومنطوقات القوانين، ولكن أيضا لروحها. كل هذا لا يسهل مهمة القاضي حتى يكون عادلا ومنصفا في أحكامه؛ فسلطته التقديرية تبقى، في جميع الأحوال، مسألة نسبية. واختلاف القضاة في هذا الشأن معروف. إذ يرجع الأمر في نهاية المطاف إلى ممارسة إنسانية.


تركيب:


يظهر لنا من خلال تحليل القولة ومناقشتها أن القوانين تبقى هي أرقى إبداع إنساني لتنظيم الحياة الجماعية وتحقيق مثاليتها المرتبطة بالعدالة والإنصاف. فرغم ما تعرفه من حدود نابعة من طبيعة الاجتماع البشري  ذاته، ومن طبيعة شكل القوانين ومضمونها، ومن التمايز بين ما هو فردي وما هو جماعي، وبين الحق الوضعي والحق الطبيعي، فإنها تبقى الوسيلة الأضمن للعيش وفق مبدإ العدالة، أما إذا انتهت العدالة إنصافا، فإنها تكون قد حققت غاياتها الإنسانية: جعلت الإنسان يعمل بالقانون ويقبل به بصفته مسكنا للعدالة أو اسمها الآخر الذي هو الإنصاف. وعليه فالعدالة كعدالة حقة لا تفتقر للإنصاف، بل تنتهي عنده لأنه أفقها الحق.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-