منهجية القولة : العلاقة بين النظرية والتجربة

 

منهجية القولة : العلاقة بين النظرية والتجربة


القولة : "يمكن اختبار علمية نظرية ما بواسطة التجربة، غير أن طريق التجربة لا يقودنا إلى إبداع النظرية."

منهجية القولة : العلاقة بين النظرية والتجربة


تحرير الموضوع:


مقدمة:


يتأطر موضوع هذه القولة ضمن مجال المعرفة، والتي تطرح مشكلة بنائها، مناهجها والغاية منها، ومن بين القضايا التي تطرحها المعرفة، قضية العلاقة بين النظرية والتجربة. تطرح القولة إشكالا إبستيمولوجيا أساسيا يتمحور حول بناء النظرية العلمية، إذ يرى صاحب القولة أن التجربة العلمية بإمكانها اختبار صلاحية علمية نظرية ما، لكن التجربة وحدها غير كافية، فهي لا تقودنا إلى بناء النظرية العلمية. فما مكانة التجربة في بناء النظرية العلمية؟ ولماذا لا تقودنا التجربة إلى إبداع النظرية؟ وما قيمة وحدود هذه الأطروحة؟

تحليل:


ينطلق صاحب القولة من إثبات أساسي، هو أن وظيفة التجربة تنحصر في التحقق من صلاحية نظرية علمية، ولا يمكن أن تكون مصدر إبداع أو بناء نظرية علمية. هذا الإثبات يفرض علينا الوقوف عند المفاهيم والألفاظ الواردة في عبارات القولة والعلاقات بين مفاهيمها.

فالتجربة من خلال منطوق القولة، هي عملية اختبارية مقصودة، والتي يجريها العالم داخل المختبر للتأكد من صحة فرضيات النظرية، فهي أداة أو معيار للتحقق، وهذا ما تؤكد عليه القوانين التجريبية في العلوم الفيزيائية والبيولوجية. إن العلم الكلاسيكي، بدءا من أعمال "غاليلو" و"نيوتن" في الفيزياء وأعمال "كلود برنار" في البيولوجيا... التجأ إلى النموذج التجريبي للتأكد من صحة الفرضيات والتحكم في متغيرات وأسباب الظاهرة. أما العلمية، فهي ذلك النموذج النظري الذي أثبت قوته وجدارته في تاريخ العلم، إنه النموذج التجريبي الذي جمع بين اشتغال العقل الرياضي والممارسة التطبيقية التجريبية. لكن صاحب القولة في العبارة الثانية، يقف موقف إبيستيمولوجيا معارضا للنزعة الاختيارية للعلم عندما صرح "إن طريق التجربة لا يقودنا إلى إبداع النظرية". وهنا يعلن عن موقفه الذي ينتصر للعقل ومفاهيمه واستدلالاته الرياضية في مواجهة التجربة التي لها دلالة اختبارية ساذجة. فإبداع النظرية يقتضي النظر في مواجهة التجربة التي لها دلالة اختبارية ساذجة. فإبداع النظرية يقتضي النظر إلى العلم بوصفه بناء منطقيا رياضيا يلعب فيه العقل الرياضي دورا حاسما. وهذا ما لا نجده في النزعات الاختيارية التي تعتبر التجربة أساس بناء النظرية.

نستطيع التأكيد على أن هذه القولة هي نقد للأطروحة الاختيارية حول أساس بناء العلم، فما قيمة وحدود هذه الأطروحة؟

يمكن دعم هذه الأطروحة بمواقف إبيستيمولوجية وفلسفية تنهل من الفلسفة العقلانية، وعلى وجه الخصوص أطروحة العالم والفيلسوف "ألبير أنشتاين" في كتابه "كيف أرى العالم"، إذ يعتبر أن الفيزياء المعاصرة هي فيزياء نظرية رياضية، لا يلعب فيها التجريب دورا كبيرا، فكل المفاهيم والقوانين الفيزيائية هي إبداعات حرة للعقل الرياضي والتي لا تجد تعييناتها في الواقع الحسي المباشر، إن منطوقات العلم تصاغ داخل لغة رمزية استدلالية تؤطرها تجريدات نظرية لا علاقة لها بالزمان والمكان الحسيين؛ فالعالم اليوم هو بناء فرضي استنباطي، أو لنقل هو تجربة ذهنية خيالية، إذ يتمكن العالم من إبداع عوالم خيالية لا توجد في الواقع، إنها افتراضات تقوم على خطاطات وعلاقات رمزية ذات دلالات نظرية.

مناقشة:


لكن العلم أيضا لا يمكن أن يكون علما إذا لم يخضع لمعيار التحقق التجريبي الذي هو معيار تمييزي يفصل بين ما هو علمي ولا علمي في النظرية العلمية، إنه مشروع الإبيستيمولوجي الألماني الأصل " كارل بوبر"، عندما دافع عن العقلانية العلمية المعاصرة التي تقوم على الخطإ وضرورته ضد اليقين والمطلق الميتافيزيقيين. فالنظرية العلمية الأصيلة هي النظرية التي تقبل أن تفند فروضها بواسطة التجربة، إن التجربة تبين عيوب وأخطاء النظرية العلمية؛ فلا علم بدون أخطاء، وخطورة نظرية ما هي انزلاقها نحو الصدق الدائم وتجاهلها للتجريب الذي بإمكانه أن يبين عيوب نظرية ما.

تركيب:


يمكن أن نستنتج من تحليلنا ومناقشتنا لأطروحة القولة، أنه صعب بناء نظرية علمية على مكون إبستيمولوجي واحد، فالعالم الفيزيائي اليوم يحتاج إلى فكرتين توجهان نشاطه العلمي، فهو يحتاج إلى مفاهيم العقل واستدلالاته وبراهينه لينظم عالم التجربة، كما يحتاج إلى معطيات التجربة وقوانينها لكي لا يبقى العقل منعزلا وفارغا، فهناك دائما حوار جدلي بين العقل والتجربة في بناء التظرية، إذ لا يوجد أي واحد منهما منفصلا عن الآخر.
تعليقات