منهجية القولة : القوة المستخدمة طبقا للقانون أقل ضررا من القوة التي تحركها الأهواء


منهجية القولة : القوة المستخدمة طبقا للقانون أقل ضررا من القوة التي تحركها الأهواء


"القوة المستخدمة طبقا للقانون أقل ضررا من القوة التي تحركها الأهواء."

منهجية القولة : القوة المستخدمة طبقا للقانون أقل ضررا من القوة التي تحركها الأهواء


تحرير الموضوع:


مقدمة:


تدخلنا القولة مباشرة إلى عمق المجال السياسي. فهي تستحضر بعض العناصر الأساس للاجتماع البشري المتمثلة في القوة، والقانون، والأهواء. وهي مكونات تتجسد بمضامين مختلفة، وضمن علاقات سياسية تمتد من القانون بمفهومه العام إلى العنف، وبالتالي إلى نفي القانون ذاته. وتراهن أطروحة القولة على علاقة أساس بين الحق والعدالة، ومن ثمة على تحكم معين في العنف. إنها مفارقة: فالقوة في حد ذاتها قد تكون إكراها خارجيا مفروضا على الإرادة (إرادة الفرد أو الجماعة) يمارسها القوي باسم قوته وشدة بأسه، وليس باسم القانون. وقد تكون هي الوسيلة التي يتم بها احترام هذا الحق وضمانه. فكيف نفهم هذين الوجهين، أو بالأصح المآلين؟

 

تحليل:


تتجلى مفارقة القوة في كونها تحمل أكثر من وجه، وفي مفارقتها تلك توضيح لإشكالية سياسية تخص البشر، عكس الحيوانات، وهي تنظيم العلاقات على أساس يتعدى الغرائز ويتعالى عليها ما أمكن. لذلك فالقوة عند الإنسان ليست هي قوة الحيوان. إنها أكثر من ذلك، لأنها تقضي على الحرية كما تعمل على حراستها وضمانها. فكيف يتم ذلك وعلى أي أساس؟

يمكن القول إنه في حالة الطبيعة لا يرى كل فرد في الآخر سوى خصم أو عائق ينبغي تدميره، نظرا لتضارب الرغبات والأنانيات بفعل قلة الموارد أو كثرتها، وبسبب أن كل واحد ينظر إلى الخيرات من منظور رغباته وحاجياته هو بالدرجة الأولى. تحرر هذه الحالة حرية الأفراد من كل قيد. وتفتح بذلك باب حرب الجميع ضد الجميع، وبالتالي تقود إلى انتشار عنف شمولي يهدد النوع البشري بالانقراض بسبب الاقتتال المفتوح حول الموارد والخيرات. وتقوم هذه الوضعية على منطق يرجع الحق إلى القوة، فيكون هو الفرع، وهي الأصل. غير أن تبعيه الحق للقوة تنفي فكرة الحق ذاتها، لأنها مدينة بوجودها لقوة معينة تواجهها حتما قوة أخرى تأتي بحقها. وهكذا إلى ما لا نهاية التي تعني في هذه الحالة: نهاية الاجتماع البشري أو تحوله إلى وحشية يسودها قانون الغاب، أي اللاقانون. القوة التي توجهها الأهواء تنفي إمكان الاجتماع البشري. لهذا توصل العقل البشري، عبر مساره التاريخي الطويل الذي بنى إنسانيته وحياته الاجتماعية، إلى إعطاء الأولوية للحق على القوة، وهو الحق الذي ساهم في تأسيسه العقل المتأمل لأسباب الأهوال والوليات التي عرفها الإنسان بسبب غياب معيار يقبل به الجميع. لهذا كان الوعي بقوة التعاقد، باعتباره تجسيدا للإرادة العامة، وبالتالي للعقل المشرع للقوانين التي تضمن الحد الأدنى من احترام حقوق الجميع، وإمكانية الاجتماع البشري في إطار حرية مدنية تجعل المجتمعات تبتعد عن العنف والتسلط والهمجية والعدوانية، على أساس أن لكل الحق في الحياة والحرية والاستمتاع بالخيرات والملذات والأمن، لكن ليس على حساب الغير. وهكذا يقصي الحق الوضعي (أي المتواضع بشأنه) القوة ويفترضها، في الآن نفسه، بعد أن غير مستويات وكيفيات استخدامها، وقنن ذلك الاستخدام بمساطر وإجراءات تأخذ مشروعيتها وشرعيتها من التعاقد. إنه يقصي العنف الناتج عن تضارب المصالح والرغبات والأنانيات، ويمارس الإكراه والعقوبات لضمان احترام القوانين. ولكن ذلك يتم بشكل يجعلها متناسبة مع الفعل المدان، وصادرة حصرا عن هيئات غير منحازة (القضاء). إن القوة الممارسة بهذا الشكل، وحسب هذه الكيفية هي قوة حامية للاجتماع البشري ومنتجة له في الآن نفسه. ومن هنا يجد تدخل الدولة وممارستها للعنف الشرعي كامل مبرراته وحيثياته. نعم، إن "القوة المستعملة لتطبيق القوانين أقل ضررا من القوة التي توجهها الأهواء".

 

مناقشة:


تعتبر أطروحة القولة أطروحة أساسية وحاسمة، سواء على المستوى السياسي أو الحقوقي، بل هي أساسية على جميع المستويات، لأنها ترسي أهم مكسب استطاع الإنسان أن يجسده في مؤسسات وممارسات، ألا وهو دولة الحق والقانون. وإن كانت هناك توجهات فكرية وسياسة ترى أن مؤسسات الدولة نفسها هي شكل من أشكال سيطرة فئة اجتماعية على فئات أخرى. والواقع أن هناك أكثر من اعتراض يمكن توجيهه لأطروحة القولة. من أهم الاعتراضات نجد القول إن الدولة تميل إلى ممارسة العنف أكثر مما هو مطلوب، وذلك حتى ترسي نفسها أمام أي احتمال لمواجهتها، وتبالغ ربما أكثر عندما يتعلق الأمر بالأفراد، خصوصا المهمشين في نوع من الحكم عبر ضرب المثل. وكأن الدولة تحتاج هؤلاء لتظهر عبر معاقبتها لهم أنها حاضرة تراقب وتعاقب. ولكن الاعتراض الأقوى هو ذاك القائل إن الدولة تبالغ في استخدامها للقوة عندما يكون ميزان القوى معرضا لمراجعة أو تعديل بفعل التوتر الاجتماعي، ويكون لأحد الأطراف حضور قوي في أجهزة الدولة ينتج عنه ميل هذه الأخيرة لطرف دون آخر. وقد يصل هذا الاختيار إلى حد تهديد وجود الدولة نفسها والتسبب في حرب أهلية. لكن تبقى وجهة نظر الفرد خاصة جدا، لأنه ينظر إلى الأمور، من سلم خاص به، وليس من سلم أكبر كسلم المجتع أو الأمة. ولكن إذا بالغت الدولة في ممارستها لتلك القوة، فإنها تكون أول من ينسف مبدأ الحق، وتفقد مشروعيتها التي تبقى في الأخير هي شرط شرعيتها. وآنذاك يكون من حق الأفراد والجماعات القيام للمناداة بتغيير للأمور لتقوم على مشروعية جديدة تعطي القوانين الجديدة شرعيتها. فإذا كان القانون يحمي المجتمع، فإن هذا الأخير يقوم فكرة القانون والحق عبر ثورته على التسلط باسم الحق في الحياة والأمن والكرامة.

 

تركيب:


لاشك أن المجتمعات  قد حققت تقدما جبارا ضد التسلط والعنف اللامبرر بإرسائها دولة الحق والقانون، وفي ذلك شهادة على تطورها الأخلاقي والروحي. ورغم قوة النقد الماركسي للدولة، فإنه نقد لا ينال من هذه الحقيقة الأساس بالنسبة للجماعات والأفراد. إن العنف الشرعي هو العنف الوحيد الذي يستطيع مواجهة العنف اللاشرعي، بينهما جدار المشروعية والشرعية، وهو الجدار الذي ترتاح تحت ظلاله المجتمعات على الأقل مبدئيا وإلى حدود إشعار آخر.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-