منهجية تحليل سؤال فلسفي : هل يتجه التاريخ نحو التقدم؟


منهجية تحليل سؤال فلسفي : هل يتجه التاريخ نحو التقدم؟



الموضوع : هل يتجه التاريخ نحو التقدم؟


تصحيح الامتحان الوطني الموحد لنيل شهادة الباكالوريا دورة يونيو 2013 

منهجية تحليل سؤال فلسفي : هل يتجه التاريخ نحو التقدم؟


تحرير الموضوع:


مقدمة:


غالبا ما يتساءل الإنسان مع نفسه، أو بمناسبة حديثه مع الغير، عن سير الأحداث واتجاهها، سواء خص الأمر حياته أو حياة الجماعة التي ينتمي إليها أو العالم بأسره. وهو تساؤل مشروع بالنسبة للإنسان، لأنه يبحث عن المعنى والاتجاه؛ ويؤكد حالة الإنسان الخاصة باعتباره كائنا يعي وضعه البشري بصفته تاريخا ووعيا بالزمن. يستحضر الإنسان سيرورة التاريخ لأنه لا يستطيع أن يعيش دون أن يستشرف المستقبل ويتبين علاقة الحاضر بكل من الماضي والمستقبل. فهل يتجه التاريخ نحو التقدم؟ هل يتقدم حقا؟

 

تحليل:


عندما نتأمل السؤال، فإننا نجده يقوم على افتراض ضمني يقول بوجود مبررات فلسفية تدعم فكرة تقدم التاريخ. لقد قطعت البشرية أشواطا كبيرة في تطورها التاريخي، من ما قبل التاريخ إلى الزمن الراهن، حيث عرفت تحولات وثورات عظيمة اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية وثقافية، جعلت الإنسان يميز بين الماضي والحاضر في ضوء المتحقق، ويستشرف المستقبل بأفق الممكن تحقيقه. وهو الأمر الذي جعله يعتقد في نوع من السيرورة الخطية التي تتجه نحو غاية قد تكون دينية أو حضارية أو ميتافيزيقية فلسفية (كاتجاه تطور العقل وتجسده كالحرية). وقد اختلف المفكرون في إمكانية التحكم في هذه السيرورة والإمساك بمنطقها. لكنهم اتفقوا بشكل عام على أن تشكل الوعي التاريخي كان بالنسبة للإنسان ذلك المفتاح التي مكنه من فتح بعض الأبواب المغلقة رغم ما وجده من صعوبات في ذلك. غير أن الثقة في الوعي التاريخي للإنسان باعتباره إطارا لفهم سيرورة التاريخ كتقدم ليست كاملة، بل تبقى حذرة نظرا لمحدودية الوعي الذي لا يستطيع الإحاطة بكل شيء، ولا السيطرة على الأهواء التي تجهل ما يحركها. نجد أيضا التصور المادي التاريخي الذي اعتقد أنه وضع اليد على محرك التاريخ ووجهته، والذي وجده في الصراع الطبقي بين طبقات متعارضة، وبالتالي في التعارض بين وسائل الانتاج وعلاقات الإنتاج، والذي يؤدي حتما إلى طفرات ثورية. فحسب هذا المعنى، يتقدم التاريخ إلى الأمام من العبودية إلى الشيوعية باعتبارها أفقا نهائيا لتطور البشرية. وقد تعزز هذا الطرح بفعل ما عرفته البشرية من تطور علمي وتكنولوجي ضاعف من قوى الإنتاج وقدرات البشر، فانضاف الإيمان بالعلم والتقنية إلى الإيمان بقوانين التاريخ. يظهر، إذن، أن فكرة تقدم التاريخ تجد ما يعززها و يؤكدها تاريخيا وعلميا وتقنيا وسياسيا، كما يظهر أنها تعترف للإنسان بفاعليته التاريخية وقدرته على تغيير الواقع تدعيما لفكرة التقدم التاريخي الذي يجسد إرادته وحلمه...

 

مناقشة:


لا يمكن قبول خلاصات التحليل دون مناقشتها، سيما أن أحداثا عظيمة بينت حدود أطروحات التقدم التاريخي. كانت أول مراجعة لموقف التقدم والتفاؤل العقلاني بالوعي التاريخي هي تلك التي قامت بقوة بعد الحرب العالمية الأولى لتشكك في إمكانية التقدم نحو الأفضل. وقد تأكد هذا التشكيك بعد الحرب العالمية الثانية  التي كانت نتائجها أعظم وأهول، حيث وصل فيها التقدم العلمي والتقني حد الجنون والتحالف مع الموت الذي شهد عليه إلقاء القنبلة النووية على اليابان، لتقطع البشرية مع كل تاريخها السابق، وتدخل عصر الرعب النووي. وهكذا برز الوجه الآخرللتقدم العلمي والتقني، ولم يعد العلم بريئا ولا محايدا أمام القوى العظمى. وإذا كان هذا هو الاعتراض الأول الذي قام على أطروحة تقدم التاريخ، فإن تصورات فكرية أخرى، البنيوية أساسا، رأت التاريخ محكوما قبليا ببنيات تتجاوز قدرات الإنسان ونظام غاياته، فليس التاريخ كيانا يتمتع بالوعي والإرادة حتى يهدف إلى غاية أو معنى. وبالتالي فإن ما يعتبر تقدما ناتجا عن إرادة واختيار بشريين ليس في الحقيقة سوى تنفيذ لبرنامج بنيات لاواعية (لاشعور بنيوي) يموت معها الإنسان باعتباره فاعلا. فلا غاية قبلية وواعية لحركة التاريخ، فكيف القول بتقدمه؟

غير أن التشكيك في أطروحة تقدم التاريخ، وإن كان يقوم على أحداث ووقائع أكيدة، لا ينبغي أن يصل إلى درجة الحكم القطعي، لأن المسألة تبقى أعقد من إمكان حلها في اتجاه القول بالتقدم، أو في اتجاه القول بعدمه؛ وذلك لأن التاريخ البشري نفسه يبقى ملتبسا وغير قابل لقراءة واحدة ووحيدة. إذ تتجلى فيه الحرية والضرورة، الغائية والعبث، التخطيط المسبق والارتجال، العقل واللاعقل، الصدفة والقانون، الحتمية والاحتمال، الواقع والخيال... إلخ. ولكن رغم هذا اللبس لا يمكن نكران أن البشرية حققت تقدما عظيما في فهم العالم اللامتناهي في الصغر (الميكروسكوبي)، واللامتناهي في الكبر (الماكروسكوبي). وتمتلك اليوم نماذج رياضية وإحصائية تدمج الاحتمال مع اليقين، تستطيع بواسطتها التحكم إلى حد كبير في العديد من الظواهر. ولكن بقدر ما تقدم الفكر الإنساني والعلم في النمذجة والاستباق، بقدر ما بقي يواجه التعقد واللايقين والمحتمل في كل مجالات الحياة، وتشير المؤشرات المتوفرة أن هذا التوجه سيستمر في توتره القوي ما بين التقدم والتراجع أو الجمود. يضعنا السؤال أمام مشكلة التاريخ باعتبارها مشكلة فلسفية معقدة لا يمكن الحسم فيها بتقديم إجابات قاطعة. أكيد أن التاريخ البشري حقق تقدما هائلا جعل أحلام البشر واقعا، والمستحيل ممكنا، ولكن، في الآن ذاته، نفس حركة التقدم تحمل في طياتها احتمالات الرجوع إلى الوراء، وربما إلى ما قبل التاريخ (مع احتمال الحروب النووية مثلا). ولكن مصير الإنسان هو أن يتحمل مسؤولية المعنى، ويدبر إكراهات الواقع وأخطاره، في حركة دائمة ما بين الشك واليقين، اليأس والأمل، احتمال النهاية أو البداية من جديد في اتجاه ما لم يكن.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-