منهجية تحليل سؤال فلسفي : بأي معنى يمكن القول إن الظواهر الطبيعية هي مجال للتفسير والظواهر الإنسانية هي مجال للفهم؟


منهجية تحليل سؤال فلسفي : بأي معنى يمكن القول إن الظواهر الطبيعية هي مجال للتفسير والظواهر الإنسانية هي مجال للفهم؟


السؤال: بأي معنى يمكن القول إن الظواهر الطبيعية هي مجال للتفسير والظواهر الإنسانية هي مجال للفهم؟


منهجية تحليل سؤال فلسفي : بأي معنى يمكن القول إن الظواهر الطبيعية هي مجال للتفسير والظواهر الإنسانية هي مجال للفهم؟


تحرير الموضوع:


مقدمة:


يضعنا السؤال في صلب إشكال العلوم الإنسانية، داخل مجزوءة المعرفة، بوصفها علوما جعلت من الإنسان ذاتا وموضوعا، درسا ومدرسا، مع ما يطرحه هذا التداخل من مفارقات وإحراجات، خصوصا عندما نستحضر معرفيا وإبستيمولوجيا العلوم الحقة الطبيعية التي، بتطبيقها للمنهج التجريبي، حققت شروط العلمية والموضوعية، وأضحت بالتالي بالنسبة للعلوم الأخرى نموذجا للعلمية التي عليها أن تقتدي به إن هي أرادت أن تصبح معرفتها معرفة علمية. فهل من الضروري على العلوم الإنسانية محاكاة نموذج العلمية كما تمت صياغته داخل العلوم الطبيعية، والقائم على المنهج التجريبي الذي يتوخى تفسير ظواهره؟ أم يمكن للعلوم الإنسانية أن تنهج لها منهجا قائما على الفهم في دراسة ظواهرها؟


التحليل:


إن عمق الإشكال الذي يطرحه هذا السؤال يعود بنا نظريا إلى لحظة الميلاد المتأخر للعلوم الإنسانية وما طرحه ذلك من مفارقات وإحراجات نابعة من طبيعة الموضوع أو الظاهرة الذي تسعى العلوم الإنسانية إلى دراستها والتي هي الإنسان من حيث هو ذات تتميز بالوعي والحرية والكرامة والقدرة على الكلام والترميز، ويكون مدروسا من طرف الإنسان ذاته، مما يعني أن الفصل "الموضوعي" بين الدارس والمدروس غير ممكن في دراسة الإنسان. إضافة إلى ذلك، ستجد العلوم الإنسانية أمامها نموذجا علميا حاضرا بقوة هو نموذج العلوم الطبيعية التي حققت نجاحات باهرة بفضل منهجها التجريبي وصرامتها في التجريب والتحديد الدقيق للمفاهيم، وصياغة القوانين التفسيرية القائمة على مبدإ السببية الذي يجمع بالضرورة والحتمية بين الظواهر الطبيعية، مما يسمح بالتعميم والتنبؤ بوقوع ظواهر مستقبلا وفق تصور مضبوط. فالمنهج التفسيري الذي اعتمدته العلوم الطبيعية نابع من صميم الممارسة العلمية التجريبية، وأيضا من طبيعة الظواهر الطبيعية وخصوصيتها القابلة أحيانا للملاحظة وإعادة البناء مختبريا؛ لذلك يمكن القول إن العلوم الطبيعية بتطبيقها للمنهج التفسيري السببي في دراسة الظواهر الطبيعية الخارجية احترمت ذلك المبدأ الإبستيمولوجي الذي يلح على ضرورة الملاءمة بين الموضوع أو الظاهرة والمنهج. لذلك يأتي استعمال هذا السؤال الإشكالي لأداة الاستفهام "بأي معنى" لتوجيه الفكر إلى هذا التقابل بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية على مستوى الظواهر المدروسة (الظاهرة الطبيعية في مقابل الظاهرة الإنسانية)، والذي يقتضي بالضرورة الإبستيمولوجية تقابلا وتباينا على مستوى المناهج المعتمدة في دراسة الظواهر بين العلمين (منهج التفسير في مقابل منهج الفهم). على أنه علينا أن نستحضر أن العلم الطبيعي أضحى منذ مدة، يفرض ذاته باعتباره نموذجا للعلمية، إلا أنها علمية نابعة من خصوصية ظواهره التي تختلف عن الظواهر الإنسانية بما هي ظواهر تنتمي إلى مجال الوعي واللاوعي، والحرية والرمز والتاريخ... إنها ظواهر إنسانية تنتمي إلى المعيش والإدراك، وليست قابلة للملاحظة المحايدة والخارجية؛ لذلك سيكون من الأنسب التوجه نحو اختيار منهج يلائم ظواهرها، وهو المنهج القائم على الفهم بما هو منهج يسعى إلى فهم الظاهرة الإنسانية في تعقدها وتركيبها، حيث تتداخل أبعاد متعددة: الجسدي والنفسي والاجتماعي والتاريخي العام والخاص... ولا يمكن عزل بعضها عن بعض، كما نعزل أجزاء المادة الجامدة، الأمر الذي يقتضي النظر إلى الظاهرة الإنسانية في كليتها، وباعتبارها تجربة معيشة في العالم المعيش المشترك القابل للمشاركة والفهم، وليس التفسير. وبهذا المعنى يتم التمييز بين التفسير والفهم، بين العلوم الإنسانية والعلوم الحقة.


مناقشة:


لم يكن التمييز السابق بين الظواهر الطبيعية والظواهر الإنسانية وما يفترضه هذا التمييز من اختيار منهج الفهم بالنسبة لدراسة الظواهر الإنسانية بالأمر الواضح بالنسبة للمؤسسين الأوائل للعلوم الإنسانية (علم الاجتماع، علم النفس...)، إذ ذهب أصحاب الاتجاه الوضعي (أوغست كونط مثلا) إلى المماثلة بين الظواهر الطبيعية والظواهر الإنسانية، ومن ثم فإن الظاهرة الإنسانية قابلة للملاحظة والتكميم والترييض، وبالتالي التفسير والربط السببي الذي يسمح لاحقا بالتعميم والتنبؤ. وهكذا اعتبر المنهج التجريبي في دراسة الظواهر الطبيعية هو المنهج الوحيد لتحقيق الموضوعية العلمية، واعتبر نموذج العلمية الذي تجسده العلوم الطبيعية هو النموذج الوحيد الذي  يفرض ذاته. وعلى الرغم من قيمة هذا الموقف واستثماره للمنهج التجريبي والإحصاء، إلا أن تطور العلوم الطبيعية ذاتها أدى إلى مراجعة كثير من الأسس الإبستيمولوجية التي كانت تقوم عليها، من قبيل تدخل ذات العالم في بناء النماذج العقلية التي أصبحت هي الواقع العلمي الحقيقي بدل العالم الحسي الخارجي الذي سيصبح عائقا أمام المعرفة العلمية. وهكذا لن يصبح التداخل بين الذات والموضوع بمثابة أمر سلبي في العلوم الإنسانية، بل سيصبح نموذجا يقتدى به على اعتبار أنه يسمح برؤية أكثر عمقا وثراء للظاهرة المدروسة، خصوصا وأن تدخل الذات في المعرفة بات واقعا إبستيمولوجيا أكدته الفيزياء المعاصرة. غير أنه لا ينبغي اعتبار توجه العلوم الإنسانية في دراسة ظواهرها نحو المنهج التفهمي، قد وضع حدا لكل الإشكالات الإبستيمولوجية، إذ إن الظاهرة الإنسانية تظل بتعقدها تفرض توجها منهجيا نحو الاستفادة من كل المناهج الممكنة، بما فيها التجريبية والصياغة الرياضية الصورية الهادفة إلى الكشف عن البنيات المتحكمة في الظاهرة الإنسانية.


تركيب:


يمكن أن نستنتج من خلال التحليل والمناقشة السابقين، أن الحديث عن علمية العلوم الإنسانية والمنهج المناسب في دراسة الظواهر الإنسانية، في مقابل الظواهر الطبيعية، هو حديث يلامس في عمقه طبيعة المعرفة العلمية عموما من حيث هي معرفة تنحو دائما نحو التطور والدينامية التي تعمل بشكل مستمر على المراجعة للمبادئ والمناهج.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-