منهجية تحليل نص فلسفي : العلاقة بين هوية الشخص والذاكرة

 

منهجية تحليل نص فلسفي : العلاقة بين هوية الشخص والذاكرة


النص:

"يجب علينا أن نحدد ما هي العلاقات التي تربط بين أحداث معينة على نحو يجعل منها الحياة الذهنية لشخص ما: من الواضح أن الذاكرة من أهمها جميعا، فالأشياء التي أتذكرها هي تلك التي حدثت لي أنا. وإذا كان بإمكاني أن أتذكر مناسبة ما أتذكر ضمن هذه المناسبة شيئا آخر، فإن هذا الشيء الآخر قد حدث لي أنا أيضا. غير أنه يمكن  الاعتراض على هذا بالقبول بأن شخصين قد يتذكران نفس الحدث، لكن مثل هذا الاعتراض ينطوي على الخطأ: لا يوجد شخصان أبدا يريان نفس الشيء بسبب اختلاف موقعيهما، كما لا يمكن أن يكون لهما نفس إحساسات السمع والشم واللمس أو الذوق. إن تجربتي يمكن أن تتشابه بشكل كبير مع تجربة شخص آخر، لكنها تختلف عنها دوما بهذا القدر أو ذاك. فتجربة كل شخص هي تجربة خاصة به لوحده".

منهجية تحليل نص فلسفي : العلاقة بين هوية الشخص والذاكرة


تحرير الموضوع:


مقدمة:


يتأطر موضوع هذا النص داخل مجال الوضع البشري الذي يتميز بالتعقيد والمفارقة، فالإنسان ينتمي من جهة إلى عالم الضرورة، لكنه أيضا يحاول تجاوز هذه الضرورة، لأنه شخص يفكر ويعقل.

تحليل:


يطرح النص إشكال العلاقة بين هوية الشخص والذاكرة، كيف يستطيع الشخص الحفاظ على الاستمرارية ذاتها وتكوين هويته من خلال الاحتفاظ بذكرياته وأحداثه الماضية. فما الأساس الذي تقوم عليه هوية الشخص؟ وما علاقة الهوية الشخصية بالحياة الذهنية؟ وما قيمة وحدود هذه الأطروحة؟

ينطلق النص من ضرورة تحديد العلاقات بين الأحداث التي عاشها الشخص في الماضي والتي شكلت حياته الذهنية، إذ يعتبر الذاكرة هي ما يشكل هذه الحياة، فأحداث الماضي هي أحداث خاصة بكل ذات أو أنا، تميزها عن باقي الذوات الأخرى. إن الذاكرة، حسب صاحب النص، هي التي تسمح بالحفاظ على وعي الشخص بذاته واستمرارية هذا الوعي في الزمن.

ثم يرد صاحب النص على المعترضين على هذه الأطروحة، أن شخصين عاشا نفس الحدث لهما ذاكرتان مختلفتان، إن لهما نظرة مختلفة، وإحساسا مختلفا للشيء نفسه. فكل شخص له ذاكرة خاصة، وتجربة خاصة، وبالتالي لكل شخص هوية ذاتية تميزه عن الآخرين. يوظف صاحب النص مجموعة من المفاهيم لبناء أطروحته، ك"الشخص" الذي هو كائن عاقل مفكر، له هوية ذاتية تقوم على الذاكرة والشعور، و"الذاكرة" هي قدرة عقلية بتخزين الأحداث والتجارب والمعطيات والأحداث واسترجاعها في مواجهة مواقف ووضعيات جديدة. وال"أنا" هو الجانب الواعي والمدرك في الشخص، إنه ضمير المتكلم الذي يرجع إلى ذاته بوصفها وحدة لا تقبل التجزئة. يدافع صاحب النص عن أطروحته باستعمال بنية حجاجية تقوم على العرض والتفسير والنقد وإعطاء الأمثلة؛ فهو يعرض أطروحته حول الهوية ويفسرها بالذاكرة، ثم ينتقد أطروحة المعترضين على قضيته باستعمال العبارة التالية: "هذا الاعتراض ينطوي على خطإ"، ويعطي أمثلة من التجربة الحسية الجسدية كالسمع والشم واللمس والذوق. تكمن أهمية الأطروحة في أنها تؤكد على الهوية الشخصية واستمرارية الوعي بالذات من منظور تجريبي، يرتبط بالخبرة الحسية، فالأنا هو أنا مفكر عاقل مادام يدرك إدراكا حسيا في الزمن.

فإلى أي حد يمكن الاتفاق مع أطروحة هذا النص؟

مناقشة:


يمكن دعم هذه الأطروحة بموقف الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" حول الهوية الشخصية، ففي كتابه "محاولة في الفهم البشري"، يعتبر "لوك" أن أساس الهوية الشخصية هو الشعور الذي هو معرفة مرافقة للإحساس، وعلى الذاكرة التي هي استمرار للشعور في الأزمنة والأمكنة التي يعيشها الشخص، فالشعور هو يقظة ومعرفة، وهو الذي يمنح الشخص معرفة بذاته، ومعرفة بالعالم الخارجي، ولا يمكن   للشخص أن يعي ذاته أيضا بدون ذاكرة، والتي هي تجربة إنسانية ترتبط بالماضي، لكنها تعيش الحاضر وتنفتح على المستقبل. لكن هل بالإمكان حصر هوية الشخص في الشعور والذاكرة فقط؟

بخلاف أطروحة صاحب النص وأطروحة الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك"، يؤكد الفيلسوف الألماني "شوبنهاور" في كتابه "العالم بوصفه إرادة وتمثلا" أن هوية الشخص تقوم، ليس على العقل أو الوعي، بل على الإرادة التي هي بحث دائم عن إشباع الرغبات دون أن نتمكن من ذلك، فوحدة الهوية واستمراريتها ترتبطان بدوافع الجسد أكثر من ارتباطهما بقدرات العقل، والإرادة التي يتحدث عنها هذا الفيلسوف هي إرادة غير أخلاقية تتجاوز القدرات الذاتية، إنها إرادة الحياة التي تبقى فينا بعد أن يتغير كل شيء.


تركيب:


يمكن أن نخلص من تحليلنا ومناقشتنا لأطروحة النص أن هوية الشخص تقوم على الشعور والذاكرة من جهة، كما أنها تقوم على الإرادة والعقل من جهة ثانية، من هنا الطابع الإشكالي لمفهوم الهوية الشخصية، إنها مفهوم ميتافيزيقي يميل إلى الاستمرار والثبات، نظر إليها كل فيلسوف من زاويته الخاصة، وبالتالي يصعب إيجاد تحديد أو تصور مشترك لها. ومع ذلك نستطيع القول إن هذا التعدد في المحددات والمعايير هو غنى فلسفي كبير، فالهوية (تتأرجح بين الثبات والتغير).



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-