ملخّصات الفلسفة | الوضع البشري : مفهوم التاريخ
المجزوءة الأولى : الوضع البشري : مفهوم التاريخ
للسنة الثانية من سلك الباكالوريا / المسالك العلمية والتقنية؛ مسلكا الآداب والعلوم الإنسانية
مفهوم التاريخ
تقديم المفهوم
إذا كان مبدأ الهوية الشخصية، حسب "لوك"، هو الوعي المحفوظ في الذاكرة، فإن وعي الشخص ليس وعيا معزولا عن وعي جماعة الأغيار التي يعيش داخلها، وبالتالي فإن الذاكرة الفردية هي امتداد للذاكرة الجماعية، وهذه الأخيرة ليست إلا تاريخ الجماعة الذي يشكل هويتها، وأساس حاضرها ومصدر استشراف مستقبلها، وكما يمكن أن يكون التاريخ حافزا للانفتاح على هويات مختلفة، مثلما يمكن أن يكون عائقا أمام هذا الانفتاح، بحيث يتحول إلى ذلك الملاذ "السعيد" الذي تحتمي به الجماعة خوفا على هويتها وحضارتها. وفي جميع الحالات تلجأ كل جماعة إلى تدوين تاريخها لحفظه من الضياع، لأن في ضياعه ضياعا لهويتها وكينونتها، وفي حفظه ترسيخ لكل مقومات الجماعة، التي تجعل من السرد التاريخي آلية من آليات محاربة آفة النسيان، لكن وفي الوقت نفسه، يصبح سرد أحداث الماضي، وكما يقول "عبد الله العروي"، ينم عن وعي بالتاريخ وعن رغبة ملحة في محوه والتغلب عليه. وبين رغبة امتلاك الماضي وتجاوزه يتمظهر الكائن الإنساني بوصفه كائنا تاريخيا، إلى جانب كونه كائنا عاقلا، ولغويا، واجتماعيا وسياسيا.
فكيف تكتب الجماعة تاريخها؟ وكيف يتم بناء الواقعة التاريخية رغم كونها موغلة في القدم؟ وأية وظيفة تقوم بها هذه المعرفة التاريخية: فهم ما جرى؟ الكشف عن منطق التاريخ وصيرورته؟ وهل يمكن القول إن الإنسان فاعل تاريخي وصانع له، أم إنه خاضع له؟
المعرفة التاريخية
عرف "هنري مارو"، في كتابه "حول المعرفة التاريخية"، التاريخ بكونه "معرفة بماضي الإنسان". وهو تعريف يؤكد على قضية أساسية وهي أن التاريخ هو معرفة وليس مجرد سرد للأحداث. إلا أن المعرفة التاريخية، مثلها مثل المعرفة الفيزيائية، ليست معطى جاهزا، وإنما معرفة تبنى. وتعتبر مساهمة المفكر الألماني "ماكس فيبر"، في تحليل طبيعة المعرفة التاريخية، مساهمة أساسية لأنه استطاع أن يظهر طابعها الإشكالي والمحدود. إن الواقع التاريخي الذي يسعى المؤرخ إلى فهمه وبناء معرفة بصدده، واقع كثيف وغير منته من حيث الدلالة، ولا يمكن لأية عدة منهجية أن تدعي القدرة على الإحاطة به، مادام واقعا متفردا يند عن كل تعميم. وعليه فإن الأسباب المفسرة لهذا الواقع التاريخي، لا يمكنها أن تكون موحدة ومحايدة، بقدر ما تكون منتقاة انطلاقا من علاقة محددة للمؤرخ بالقيم التي تجعله يرجح كفة عامل مفسر على عامل آخر، محددا ما هو رئيسي وما هو ثانوي في هذه العوامل. إن المؤرخ لا يفهم الماضي بصفة نهائية، والسببية التاريخية هي أساسا سببية تحليلية، متفردة وجزئية احتمالية.
وعليه يبقى العمل المنهجي للمؤرخ محددا لهذه المعرفة. لذلك يرى "ريمون آرون"، في كتابه "دروس في التاريخ"، أن عمل المؤرخ في مجال المعرفة التاريخية عمل لا يؤمن بوجود ماض خالص، إذ إن كل ماض هو ماض مستحضر، وكل معرفة تاريخية هي إعادة بناء ما كان موجودا ولم يعد الآن كذلك. كما أن المعرفة التاريخية لا يمكن أن تكون إلا معرفة مبنية عبر بحث وتنقيب وتحقيق، وإن معنى الماضي لا يتولد إلا في إطار علاقة نقدية تباعدية تحاول ما أمكن الاقتراب من الماضي.
وفي سياق نفس الإشكال، تناول "بول ريكور"، في كتابه "التاريخ والحقيقة"، طبيعة هذه المعرفة وكيفية تكوينها؛ فأظهر كيف أنها معرفة يتداخل فيها الذاتي مع الموضوعي، والتفسير مع الفهم، والملاحظة مع الافتراض، والماضي مع الحاضر والأنا مع الآخر. منتهيا في تحليله إلى أن المعرفة التاريخية لا يمكن أن تكون كاملة الموضوعية، لأنها مشروطة دوما بمنهج محكوم هو الآخر برؤية المؤرخ. وإذا كان "ريكور" يقبل بقاعدة "المسافة الضرورية" لبناء معقولية الحدث التاريخي، إلا أن تلك المسافة، ومع ذلك، لا تمنع المؤرخ من التدخل الذاتي في البناء، عبر تقديره الشخصي لأهمية العوامل المفسرة للحدث وأسلوب سرده للواقع. لذلك يلح "ريكور"، بنوع من الحذر المنهجي، على ضرورة عدم نسيان أن عمل المؤرخ هو عمل منهجي نسبي ومحدود، رغم طابعه العلمي الذي يذكرنا بعملية العلوم الحقة.
تركيب
إن القول بأن التاريخ هو معرفة بماضي الإنسان، قول يضعنا أمام إشكال بناء هذه المعرفة التاريخية، من حيث إنها معر
فة يبنيها المؤرخ انطلاقا من قيم زمنه، ومن رؤية خاصة للحدث التاريخي. إن عمل المؤرخ القائم على البحث والتنقيب وإعادة تركيب نقدي للوثائق، مع ما يقتضيه ذلك من تباعد، لا يجب أن ينسينا محدودية هذا العمل، ومدى التداخل بين الذاتي والموضوعي، بين الماضي والحاضر.
التاريخ وفكر التقدم
يطرح إشكال المعرفة التاريخية، رغم طابعه الإبستيمولوجي، أهمية التاريخ بوصفه بعدا من أبعاد الوجود البشري، كما يطرح، في العمق، الفرق بين مقاربة الفيلسوف، عاشق الحقيقة الدائمة، والمؤرخ راوي الحدث العابر، كما يقول الأستاذ "عبد الله العروي"، في كتاب "ثقافتنا في ضوء التاريخ".
إن المقاربة الفلسفية للتاريخ (أو فلسفة التاريخ) مقاربة تسعى إلى البحث عما يمكن أن نستشفه من دروس، وما يمكن أن نستخلصه من منطق مضمر في تسلسل أحداث الماضي، عبر التساؤل عن وجهة التاريخ: هل هو تقدم أم تكرار؟ وهل هو تقدم محكوم بضرورة أم أنه سير تحت رحمة الصدفة وسلطتها؟ ويترتب على الجواب عن هذه الأسئلة تبعات تحكم الممارسة والتفكير. وتشكل فلسفة "هيغل" لحظة أساسية في استيعاب الفلسفة للتاريخ، وتفسير فلسفي نسقي له. وفي قراءة "هيغل" للتاريخ البشري يستنتج أن فكرة التقدم حقيقة فلسفية بامتياز، بل ويرى فيها حقيقة الصيرورة، إلا أنه يجعل من حركة التاريخ حركة التحقق التدريجي للحرية، واكتمال الفكرة وتمظهرها وتحققها النهائي. إن هذه الفكرة المطلقة (الروح) هي التي تضفي على التاريخ معقوليته، وتكشف عن منطقه. ويرى "كارل ماكس" في كتاب "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي"، في هذا التصور الهيغيلي، تصورا مبنيا على صيرورة مثالية مجردة، ترهن تقدم التاريخ البشري بعوامل وقوى مفارقة. وبدل التفسير السابق، يعتبر "ماركس" تقدم التاريخ محكوما بتتال لأنماط إنتاج تفهم باعتبارها مراحل تقود بعضها إلى بعض عبر النفي. ويفترض التحليل الماركسي وجود هذه الضرورة في الأساس المادي للمجتمع المكون من قوى الإنتاج ووسائل الإنتاج ومجموع العلاقات الاقتصادية والاجتماعية. لذلك يؤكد "ماركس" على أن تاريخ كل مجتمع ماهو إلا تاريخ الصراع الطبقي، وأن التاريخ البشري ما هو إلا نتاج الصراع بين الطغاة والمضطهدين، بين الأسياد والعبيد...
لكن من شأن القبول بفكرة التقدم الضروري والآلي والمحكوم مسبقا بمآل حتمي، من شأن ذلك أن يعطي لتاريخ البشر صيغة تنفيذ برنامج محدد سلفا، وأن يسقطنا في تصور إطلاقي ومغلق لضرورة تجعل التاريخ الإنساني يتقدم نحو اتجاه معلوم. وإن هذه الاعتراضات هي التي جعلت الفيلسوف الفرنسي "ميرلوبونتي" يحافظ على مسافة نقدية مع الماركسية في تصورها للتاريخ مؤكدا أنه إذا كان التاريخ يتقدم وفق منطق محدد وخاضع للضرورة، بحيث يمكن القول إن التاريخ، ورغم اختلاف مظاهره، يشكل "مأساة واحدة"، فإن هذا لا ينفي دور العرضية الذي يبقى أساسيا في التاريخ. ويقصد بعرضية التاريخ غياب الترابط الآلي بين الأحداث وكأننا أمام نسق محكم ومغلق، بل هناك فراغ بين الأحداث، أو حصولها على أوجه مختلفة مثلما حصل مع الثورة البولشفية في روسيا. فليس بالضرورة، مثلا، أن ينتج عن النمو الاقتصادي نضج إيديولوجي. كما أن عرضية التاريخ عند "ميرلوبونتي"، تعني إمكانية انحراف جدلية التاريخ عن الأهداف التي حددتها لنفسها، كما انحرفت الثورة الروسية عن أهدافها مع المرحلة الستالينية. إن المطلوب، هو ضرورة التخلص من تلك النظرة التيولوجية (الغائية) للتاريخ.
والنظر إلى منطق التاريخ والتقدم باعتباره إمكانية من بين إمكانات أخرى.
تركيب
تطرح سيرورة التاريخ إشكالا يتعلق بفكرة تقدم التاريخ. فقد نعتبره سيرورة خاضعة لمنطق خاص أو لضرورة تتجلى في ذلك التناقض بين قوى الإنتاج وعلاقاته، وبذلك تنفي هذه السيرورة كل صدفة أو عرضية؛ أو أن نعتبر سيرورة التاريخ ليست دائما خاضعة لضرورة محددة مسبقا، بل هي سيرورة مفتوحة، تقبل فكرة الضرورة إلا أنها لا تنفي دور العرضية في التاريخ.
دور الإنسان في التاريخ
يمكن اعتبار التساؤل عن دور الإنسان في التاريخ استمرارا للتساؤل عن منطق التاريخ؛ بصيغة أخرى فالتاريخ هو أحداث ووقائع تقف وراءها اختيارات وقرارات إنسانية. فهل يعني هذا أن الإنسان فاعل تاريخي حقا أم هو من باب القول المجازي فقط؟ تختلف الإجابة عن السؤال باختلاف تصور الجواب لحقيقة التاريخ ولمنطقه. فهناك التصور الهيغيلي الذي أكد على فكرة التقدم، ورأى فيها حقيقة الصيرورة، إلا أنه جعل من حركة التاريخ حركة التحقق التدريجي للحرية واكتمال الفكرة وتمظهرها وتحققها النهائي. إن هذه الفكرة المطلقة (الروح) هي التي تضفي على التاريخ معقوليته، وتكشف عن منطقه وحتميته، هذه الحتميه التي تعمل خارج إرادة الأفراد، وتجعل من "عظماء" التاريخ مجرد أدوات في يد هذه الروح المطلقة، إذ بهم تحقق غاياتها، وهي غايات بمجرد أن تتحقق، يسقط هؤلاء العظماء "مثل قشور أفرغت من نواتها". إن هذا التمثيل الذي يعتمده "هيغل"، كأسلوب حجاجي، يحاول من خلاله أن يوضح ويقنع القارئ بأن علاقة النواة بالقشرة تماثل علاقة الروح المطلقة بهؤلاء الأبطال العظماء الذين يظن البعض أنهم هم الذين صنعوا أحداثا تاريخية. إن"الاسكندر" أو "قيصر" أو "نابليون" أو غيرهم، مجرد منفذي الإرادة الروح التي هي المضمون الحقيقي والنواة.
إنه التصور المثالي المجرد الذي انتقده "ماركس"، انتقده لطابعه التجريدي، ليكشف بالمقابل عن الأساس المادي الاقتصادي للتاريخ جاعلا من الطبقة الاجتماعية فاعلا تاريخيا يصنع التاريخ. لكن الناس الذين يصنعون التاريخ لا يصنعونه وفق إرادتهم وحرياتهم ما دام هناك شيء ما يفلت منهم.
ويقبل "سارتر" بالجواب الماركسي، معتبرا الإنسان فاعلا في التاريخ وصانعا له، لكنه يركز بشكل قوي على الإمكانية المتاحة له سلفا لتجاوز وضعه أو للتعالي على الشروط الموضوعية من أجل تحقيق مشروعه الذي هو عبارة عن حقل ممكنات يختار إحداها ليحققها. ولا يمكن تصور هذه القدرة التي تميز الإنسان إلا داخل الممارسة (العمل، الشغل) التي تنفي ما هو معطى بشكل مسبق (داخل الجسد أو خارجه)، لتصنع منه موضوعا جديدا خاصا بالإنسان، وفق مشروعه الذي يستشرف به المستقبل. وأن يصنع كل واحد منها، بصفته فردا، تاريخه عبر الممارسة، معناه أن يعمل على تجاوز وضعيته، أي مجموع الشروط التي يجدها منذ البدء أمامه وفي محيطه (عبودية، فقر، مرض مثلا)، تجاوز ذلك نحو مجموع الاحتمالات المتاحة، ليختار، ثم يعمل على تحقيق إحدى هذه الاحتمالات. هذا هو دور الإنسان في صنع التاريخ.
لا يرفض "سارتر" أهمية الشروط الموضوعية، لكنه يسعى إلى تأويل نقدي، كأسلوب حجاجي، للتصور الماركسي، تأويل يزيح ما يبدو متناقضا في قول "إنغلز" (إن الناس يصنعون تاريخهم بأنفسهم ولكن في وضع محدد يشرطهم)، وانطلاقا من ذلك، يرفض أن تصبح هذه القوى أو الشروط هي المتحكمة في الإنسان، بل هي شروط معيقة، وفي الآن ذاته الوسائل التي تفتح أمام الإنسان حقل الممكنات.
لكن إلى أي حد يمكن للفرد فعلا أن يتخلص من كل الشروط الموضوعية الداخلية والخارجية؟ ألا تلعب البنيات الاجتماعية والاقتصادية والذهنية دورها في تحويل التاريخ وصناعته في غياب تدخل الفرد، رغم الوعي والحرية والإرادة؟ يقدم "كلود ليفي شتراوس"، انطلاقا من مقاربة أنثروبولوجية، أطروحة مغايرة لأطروحة "سارتر"، مؤكدا على وجود بنيات لاشعورية تتحكم في الإنسان وتظل ثابتة رغم كل التحولات التاريخية. كما انتقد "شتراوس" فكرة التقدم بوصفها فكرة تقود إلى فرض هيمنة النموذج الغربي وكأنه نموذج كوني. إن المجتمعات، في نظره، ليست مطالبة باتباع نفس المسار التطوري الخطي بدعوى ضرورة التقدم، ذلك أن شرط احترام الاختلاف الثقافي هو تنسيب فكرة التقدم.
تركيب
إن فكرة تقدم التاريخ في ضوء الضرورة أو العرضية، تضعنا في مواجهة سؤال علاقة الإنسان مع تاريخه: أي دور يقوم به الإنسان في إطار السيرورة التاريخية: هل هو فاعل أم منفعل به؟ قد نعتبر دور الإنسان في التاريخ محكوما بالضرورة التاريخية التي تتجاوز إرادته، وقد نعتبر الفاعلية البشرية الواعية باختياراتها فاعلية لها القدرة على صنع تاريخها متى تملكت شروط تحقيق أهدافها.
خلاصة عامة
يضعنا التفكير في مفهوم التاريخ أمام جملة من الإشكالات المرتبطة بالمعرفة التاريخية، وفكرة التقدم في التاريخ، ثم إشكال دور الإنسان في التاريخ. ولعل هذا الإشكال الأخير يكشف، بشكل واضح، عن ذاك البعد الزماني المؤسس للوضع البشري، ومن حيث إنه يقدم مثالا قويا عن التداخل بين الذاتي والموضوعي في تحديد وضع الإنسان في الوجود. إن التاريخ هو معرفة بالماضي، إلا أنه ماض، ورغم أنه لا يعود، إلا أنه لا يدفن، مادام يسكن الحاضر ويوجه تصورنا للمستقبل.