ملخصات الفلسفة | المجزوءة الرابعة : السعادة


ملخصات الفلسفة | المجزوءة الرابعة : السعادة 


السعادة

ملخصات الفلسفة | المجزوءة الرابعة : السعادة


تقديم المفهوم


من الصعب أن نتصور إنسانا يبحث عن الشقاء ويتجنب السعادة، إذ إن الشائع هو اتفاق كل الناس على اعتبار السعادة غاية في ذاتها؛ وذلك على أساس أنها الخير الأسمى الذي يطمح الإنسان إلى تحقيقه. وهو ما يجعل منها مطلبا كونيا يشترك فيه المجتمع.

إلا أن مجرد التفكير في السعادة سرعان ما يضعنا أمام صعوبات ومفارقات. فإذا كان كل الناس متفقين في البحث عنها بشتى الوسائل، إلا أنهم يختلفون في تحديد مضمونها وسبل بلوغها.
فما السعادة؟ وهل هي غاية قابلة للتحقق؟ ما علاقتها بالواجب؟ ولماذا تطرح بوصفها إشكالا أخلاقيا؟


تمثلات السعادة


لقد نظر الفكر الفلسفي للسعادة، باعتبارها غاية الفعل الإنساني، وبوصفها فعلا يصبو نحو الكمال الأخلاقي، ويسعى إلى تجسيد القيم العليا، سواء بالنسبة للفرد أو الجماعة. لذلك فرض هذا التصور كل التمثلات الشائعة حول السعادة، والتي جعلت منها مطلبا فرديا يتحقق في الحصول على المتع الحسية المباشرة أو اللهو، وهي متع قد تؤدي، رغم الاستمتاع الآني بها، إلى إلحاق الضرر بالفرد ذاته (الصحة) أو الجماعة. لقد ارتبطت السعادة، في التصور الفلسفي اليوناني مثلا، بممارسة التفكير التأملي وبالفضيلة والاعتدال تجاه الرغبات والشهوات. وجعلها أرسطو فضيلة جليلة وسامية، إلى حد القول "إنه من الجهل أن يقال إن اللهو هو غاية الحياة" (أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخ). كما اعتبر بعض الفلاسفة الشهوات. واللذات العائق الأكبر أمام حصول الإنسان على السعادة.

ولا تؤدي التجربة الحسية وما تولده من تمثلات حول السعادة، حسب الفكر الفلسفي الحديث، إلا إلى تصور ينهل من سلسلة من الظواهر الجزئية، يحاول من خلالها أن يبني مفهوما واضحا حول السعادة، إلا أنه في الحقيقة ينتهي إلى تصور نسبي ومشروط، ويفشل في تحويل السعادة إلى مفهوم مطلق ينطبق على كل الأشخاص والحالات.

نحن إذن أمام إحراج: نريد بناء مفهوم عقلي مطلق للسعادة، وليس أمامنا سوى سلسلة من الجزئيات اللامتناهية. إن هذا الإحراج، حسب "كانط"، يجعلنا نقر بأن السعادة هي مجرد "مثال" للخيال، ولا يمكن أن تصبح مفهوما عقليا. ويشرح "كانط" ذلك بالقول إن مثال السعادة "مؤسس على مبادئ تجريبية، ينتظر منها الإنسان في غير جدوى، لن نتمكن من تحديد فعل نصل به إلى كل شامل لسلسلة من النتائج هي في الواقع لامتناهية "(إمانويل كانط، أسس ميتافيزيقا الأخلاق). لذا لابد من النظر إلى السعادة في إطار سياقات أخلاقية تستحضر مفاهيم الواجب، والفضيلة والخير.

تركيب

على الرغم من أن التفكير الفلسفي قد أقر بكون السعادة هي الغاية التي يطلبها الإنسان لذاتها، إلا أنه رفض اعتبارها تحقيقا فرديا وآنيا للذات، كما تصورها التمثلات الشائعة. إنها قيمة تتحدد داخل المجال الأخلاقي.



السعي وراء السعادة


اعتبار أهمية السعادة بالنسبة للإنسان، بوصفها غاية كونية. عمل الإنسان جاهدا على طلبها، والتفكير في الوسائل الموصلة إليها. وإذا كان بعض الفلاسفة قد اعتبر بلوغها ممكنا إما بواسطة التأمل أو باتباع طرقي الفضيلة والاعتدال، فإن البعض الآخر أكد على أهمية الخضوع لحتميات الطبيعة وتجنب الشهوات التي بفعل استحالة إشباعها تشكل عائقا أمام بلوغ السعادة. لكن مواقف فلسفية، مثل موقف "روسو"، رأت في تطور الحضارة الإنسانية عاملا عمق الهوة بين رغبات الإنسان وقدراته، فالكماليات "التي فقدت متعتها، بحكم العادة، وتحولت إلى حاجيات حقيقية وأساسية، صار فقدها أشقى مما كان تملكها ممتعا، وصار الإنسان يشقى بفقدها دون أن يكون سعيدا بتملكها" (روسو، أصل التفاوت بين الناس). مما يعني أنه بقدر ما يتطور الإنسان، بقدر ما يبتعد عن الحالة التي كانت قدراته تناسب رغباته. وعليه، فإن الإنسان لن يبلغ أبدا لحظة السعادة في الحاضر أو المستقبل.

في مقابل هذه المواقف السلبية من الحضارة اليائسة من قدرة الإنسان على بلوغ ما يطمح إليه من سعادة، نجد من يذهب إلى أن الإنسان لم يبدع فقط الأسباب المسؤولة عن شقائه، وإنما استطاع أن يبدع جملة من الفنون التي تكسب من يمتلك ذوقا ورهافة وإحساسا بقيمة الجمال. وفي هذا السياق يؤكد هيوم أن "لرهافة الذوق ورقته نفس الأثر الذي لرفاهة الإحساس. إنها توسع من دائرة سعادتنا مثلما توسع من دائرة شقائنا، وتجعلنا أكثر تأثرا بالأفراح والأحزان" (دافيد هيوم، أبحاث جمالية). وهكذا يستطيع ذو الذوق الرفيع المتمعن في لوحة، أو المنصت لقصيدة شعرية أو مقطع موسيقي، أن يسمو بأحاسيسه وأن يوسع من دائرة سعادته. إذن يشكل تهذيب الذوق، وإكسابه رهافة بواسطة دراسة الأعمال الفنية والجمالية، وسيلة تقرب المرء من السعادة وتجنبه كثيرا من مظاهر الشقاء.

تركيب

يؤدي التفكير في مفهوم السعادة، إما إلى اعتبارها غاية صعبة التحقق في الحاضر، بسبب الرغبات الكثيرة وغير القابلة للتحقق؛ وإما أنها قيمة يمكن للإنسان بلوغها إذا ما استطاع تجنب الشهوات، أو تهذيب ذوقه.



السعادة والواجب


حصرت التصورات الفلسفية السابقة، مفهوم السعادة في إطار فعل الامتلاك، مثل امتلاك القدرة على التأمل النظري أو على تلبية الرغبات، أو رهافة الذوق؛ وإما وضعت السعادة في سياقات فعل الوجود، مثل السكينة والفضيلة؛ لذلك نظرت إلى السعادة بوصفها معطى قابلا للتحقق أو مطلبا بعيد المنال. إلا أن تصورات فلسفية معاصرة ترى أن السعادة مجالها الحقيقي هو الفعل والممارسة.

وهكذا اعتبر الفيلسوف الإنجليزي "راسل" أن السعادة تتوقف على مدى اهتمامنا الودي بالأشخاص، وأن "الشخص الذي يكون سلوكه تجاه الآخرين من هذا النوع، وبصورة طبيعية، سوف يكون مصدرا للسعادة" (برتراند راسل). فالسعادة غاية تبنى داخل العلاقات الإنسانية، بحيث تغدو واجبا نحو الغير. فالاهتمام بالغير بمودة وتلقائية، والعمل من أجل فهمه والتقرب منه، من غير رغبة في الاستحواذ أو التسلط عليه؛ كل ذلك من شأنه أن يخلق مصادر سعادة الذات والآخرين.

إن السعادة تصبح ممكنة عندما تتوفر لدى الإنسان إرادة طلبها من أجل نفسه أولا، ومن أجل الآخرين. فمن الصعب أن يمنح المرء السعادة لغيره وهو يفتقدها. لذلك على المرء أن يجعل من السعادة واجبا نحو نفسه، وأن يقبل على مباهج الحياة وعطاياها. فمن السهل أن يكون الإنسان مستاء، كما أنه من السهل أن يصنع من أشياء صغيرة وبسيطة مظاهر السعادة التي يتقاسمها مع الآخرين. إذن من الواجب أن أعمل على إسعاد نفسي بدون أنانية مفرطة، ومن الواجب علي أيضا أن يسعى إلى إسعاد الآخرين، لكن بدون تضحية مدمرة. إن رفض السعادة، حسب "آلان"، هو السبب فيما تعرفه الإنسانية من المآسي والحروب.

تركيب

السعادة قيمة أخلاقية توجه العلاقات الإنسانية، كما أنها قيمة تبنى في إطار واجب نحو الذات والغير. لذلك على الإنسان أن يطلبها لنفسه بدون أنانية، وأن يطلبها لغيره لكن بدون تضحية مدمرة.


خلاصة عامة

لقد شكلت السعادة دوما بالنسبة للإنسان، غاية عمل على بلوغها بشتى الوسائل. وإذا كان التفكير الفلسفي يقر بأهمية طلبها، فإنه جعل منها مفهوما يندرج في سياق مبحث أخلاقي، وذلك بهدف تجنب حصرها، كما تفعل التمثلات الشائعة، في مجرد طموح فردي يجعل من اللذات الآنية مضمونا محددا لها. وهكذا ستصبح السعادة قيمة توجه الفعل الإنساني والعلاقات الإنسانية، قيمة تبنى في إطار تعاون كلي يأخذ بعين الاعتبار طموحات الفرد وآمال الجماعة. إن التفكير في مفهوم السعادة في علاقته بمفاهيم الفضيلة، والواجب، والغير؛ يجعل منه المفهوم الذي قد يسمح لنا بفهم أسباب ما تعرفه الإنسانية من مآس وحروب، وما نشاهده من أنانيات مفرطة وتضحيات مدمرة.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-