پ

ملخصات الفلسفة | المعرفة : النظرية والتجريب


ملخصات الفلسفة | المعرفة : النظرية والتجريب


المجزوءة الثانية: المعرفة 

النظرية والتجريب، العلوم الإنسانية، الحقيقة

ملخصات الفلسفة | المعرفة : النظرية والتجريب


تقديم عام


في مسرحية "حياة غاليلي" للمؤلف المسرحي "بريخت"، يصرح غاليلي لمحاوريه أن جهل الإنسان بالعالم ليس له نهاية، وأن الحقيقة بنت زمانها. إنها أمامه يكشفها بالعين واليد والعقل.

في هذه اللحظة، أي في القرن السادس عشر ميلادي، سعى الإنسان إلى فهم الطبيعة، وتحليل ظواهرها لأجل التحكم فيها والسيطرة عليها، لكن بالاعتماد على قدراته الفكرية وإمكاناته التقنية والمنهجية.

فمنذ "غاليلي" سعى العالم إلى إنتاج معرفة دقيقة ومنظمة تجريبية ورياضية، سواء تعلق الأمر بموضوعات العالم الطبيعي الفزيائي أو بالعالم الإنساني ذاته.

لكن يظل الإنسان يفكر دائما في حقيقة ما توصل إليه من معارف ونظريات وتقنيات، فلجوء المعرفة إلى العقلانية العلمية وإلى إبراز دور العقل والتجربة في بناء العلم، لا يعني إقصاء الخيال والتأويل في هذه المعرفة ذاتها.

فكيف يبني الإنسان معرفته بالواقع وبذاته؟
ما العلاقة بين مفاهيم العقل ومعطيات التجربة في بناء هذه المعرفة؟
وهل غاية المعرفة العلمية هي بلوغ الحقيقة؟ ما دلالة الحقيقة؟


النظرية والتجربة


تقديم المفهوم

إذا ما حاولنا أن نتأمل في العبارة المركبة التالية: النظرية والتجربة، فإن ما يتبادر إلى ذهننا هو حضور علاقة توتر وصراع بين المفهومين، كل مفهوم يواجه الآخر، فكلمة نظرية مشتقة من النظر؛ وتعني تأمل الموضوع تأملا عقليا، وقد ارتبطت الكلمة في دلالتها اللغوية الإغريقية بتأمل التجربة وتجاوز المعطى والابتعاد عن الواقع والتجربة.

بينما تعني كلمة تجربة في الحياة الواقعية والخبرة والارتباط بما هو موجود حسيا، هذا التمييز الأولي الظاهر بين دلالة الكلمتين يوحي لنا بحضور التفكير المجرد في لفظ النظرية، وشبه غياب ما هو عقلي في دلالة لفظ التجربة.

إن هذا التوتر الظاهر بين دلالة اللفظين يخفي الحوار الخفي بينهما، فالنظرية تعني "نسقا من المبادئ والقوانين التجريبية الذي ينظم معرفتنا بمجالات معرفية خاصة، ويتضمن هذا النسق بناء منطقيا له مكوناته يخضع لنظام فرضي استنباطي، يسمح للعالم بالانتقال من عنصر إلى آخر وفق تراتب صارم".

وتعني التجربة في مجال المعرفة العلمية "إعادة إحداث ظاهرة ما، تمت ملاحظتها في شروط نظرية وتقنية محددة"، بحيث تمثل التجربة، الوسيلة الضرورة، واللحظة الحاسمة، التي تمكن العالم من إثبات صدق أو كذب الفروض التي يضعها في دراسته للظواهر.

يبدو أن "النظرية" ليست تجريدا ذهنيا ومفاهيميا خالصا، كما أن التجربة ليست مجالا لحضور الملموس الواقعي فقط، إن الصراع بين المفهومين يخفي التداخل الكبير بينهما.

فهل القول بأهمية التجريب في المعرفة العلمية هو تهميش للعقل؟
ما مكانة العقل في العلم؟ ما المشكلات التي تطرحها علاقة النظرية مع التجربة؟




التجربة والتجريب


في مجال المعرفة العلمية تأخذ التجربة دلالة خاصة، إنها مجموعة من الإجراءات والخطوات النظرية والعلمية التي يقوم بها العالم بصفة مقصودة. فما الصورة التي يأخذها التجريب في العلم؟ ما الخطاطة المقترحة عند القيام بالتجربة؟

يقترح "كلود برنار" في كتابه "المدخل في دراسة الطب التجريبي" الصورة المثلى لعالم تجريبي يجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية. في البداية على العالم أن تكون لديه فكرة يخضعها للفحص، والذي هو لحظة التأكد من الفكر؛ فعليه إذن أن يكون ملاحظا ومجربا. وتقتضي الملاحظة العلمية معاينة الظاهرة وتعريفها تعريفا صحيحا، ومن الشروط الموضوعية والدقة في المعاينة؛ فالعالم الموضوعي ينصت إلى الطبيعة وينقل ما هو موجود في الواقع، ثم بعد الملاحظة تأتي الفكرة أو الفرضية التي من خلالها يبحث العالم عن تفسير لأسباب حدوث الظاهرة، فيلتجئ إلى التأكد من الفرضية بواسطة التجربة التي هي لحظة التحقق من تخمينه ومشروعه الفكري.

هذه الخطاطة النظرية تعتمد على خطوات منهجية أساسية هي: الملاحظة، والفرضية، والتجربة، وقد قام العلم الكلاسيكي على أسس ومبادئ هذا المنهج.

لكن العالم لا يجب عليه أن يبقى سجين خطوات المنهج التجريبي في صورته الكلاسيكية، فالعالم يصوغ فروضه ضمن إشكالية علمية ونظرية توجه أسئلته، بل إنه يبدع "كيانات خيالية" لا يستطيع التأكد منها في الواقع.

لا يحتاج العالم دائما إلى إجراء تجاربه في المختبر، وهذا ما يؤكد عليه "روني توم" في عمله " فلسفة العلوم اليوم"، فالاعتقاد بأن استخدام التجريب يمنح وحده التحليل السببي لظاهرة من الظواهر هو اعتقاد خاطئ، ذلك أن التجريب وحده عاجز عن اكتشاف أسباب الظاهرة، لذلك ينبغي إكمال الواقعي بالخيالي، والخيال العلمي هو أساس تجربة ذهنية، ولا يمكن لأي تجربة أو جهاز أن يعوض هذه التجربة الذهنية.

إن الخيال، حسب "روني توم"، هو تجربة ذهنية أو تفكير ينفلت من كل رتابة أو منهج منظم بشكل صوري.

تركيب

يبني العالم التجريبي قوانينه تبعا لخطوات منهجية ونظرية، تجمع بين شروط الملاحظة العلمية ومبادئ التجربة عندما يخضع الفروض لمبدأ التحقق التجريبي. لكن التجريب بهذا المعنى لا يشكل مقوما وحيدا في تفسير الظواهر، إذ لابد من اعتبار عنصر الخيال وإدماجه في عملية التجريب. إن الخيال هو تجربة ذهنية تمنح للواقع العلمي غنى كبيرا. فكثير من التجارب اليوم تعتمد الصور بدل الواقع، الأثر بدل الشيء، وهذا ما تؤكد عليه الفيزياء المعاصرة، التي تجاوزت مبادئ وتقنية العلم الكلاسيكي.




العقلانية العلمية


يبدو أن المعرفة تتضمن مكونين أساسيين هما: معطيات التجربة من جهة، ومن جهة ثانية أحكام العقل ومفاهيمه ونشاطه. وإذا كان العقل نشاطا ذهنيا وقدرة على التفكير في موضوعات محددة، فإن مجال العلم تخلى تدريجيا عن بنيته التقليدية، التي كانت تقوم على مجموعة من المبادئ والقواعد الثابتة.

لم يعد العقل، بدءا من الفيلسوف "كانط"، منغلقا على ذاته ولا هو يشتغل بصورة معزولة عن الواقع، بل هو فعالية ونشاط يتطور بتطور عالم التجربة ذاته.

فما الأسس الفلسفية التي تستند إليها العقلانية العلمية؟ ما العلاقة التي يجب إقامتها بين العقل والتجربة؟

يؤكد "غاستون باشلار" في كتابه "العقلانية المطبقة" على أهمية الحوار الجدلي بين العالم العقلاني والعالم التجريبي، فعالم الفيزياء مثلا يحتاج إلى فكرتين أساسيتين تقودان عمله العلمي، إنه اليقين المزدوج، يقين أول يرى الواقع غير معزول عن تدخل العقل، ويقين ثان يرى أن الحجة العقلية من صميم التجربة.

فعلى العالم اليوم أن يكون في مركز يكون فيه العقل مشروطا بموضوع المعرفة. فالعقلانية العلمية الجديدة تتجاوز انعزال العقل، إنها عقلانية مطبقة أو جدلية، تتحقق في إطار فلسفة مفتوحة تقوم على حوار بين العقل والتجربة، هذا الحوار الذي يتجاوز الثنائية التقليدية بين العلماء التجريبيين والعلماء العقلانيين.

غير أن التجربة، مع التيارات التجريبية الاختبارية مازالت تتحكم في بناء النظرية العلمية، فالتجربة هي الأساس، ويتم حصر الوظيفة في النظر في تصنيف المعطيات وصياغة القوانين صياغة رياضية، يقول دوهيم "إن النظرية الصحيحة ليست تلك التي تعطي تفسيرا للظواهر الفيزيائية، بل هي التي تعبر بطريقة مرضية عن مجموعة من القوانين التجريبية".

وعلى النقيض من أطروحة دوهيم، نجد الموقف الإبستمولوجي "لألبرت أنشتاين" الذي يرى أن المبدأ الخلاق لنظرية علمية ما، لا يوجد في عالم التجربة بل في العقل الرياضي الذي يبدع المفاهيم والمبادئ إبداعا حرا.


تركيب

إن العقلانية العلمية عقلانية فلسفية مفتوحة تقوم على يقين مزدوج يوجه النشاط العلمي التجريبي،  كما تعتبر النظرية العلمية نظرية صحيحة عندما تعبر عن قوانين تجريبية من جهة، وعن مفاهيم العقل الرياضي الذي يبدع ويتخيل من جهة أخرى.

إن النموذج الرياضي هو نموذج فرضي استنباطي بيني التجربة التي لم تعد مرتبطة ارتباطا مباشرا بالواقع، ويساهم الحوار بين النظرية والتجربة في إعادة صياغة مفاهيم فلسفية وعلمية أساسية.
فلا وجود لنظرية علمية خالصة، كما لا توجد تجربة علمية مستقلة عن العقل.




معايير علمية النظريات العلمية


شكلت الأطروحة التجريبية نموذجا للعلمية إذ تم اعتبار التجربة العلمية منبعا للنظرية ولقيمتها العلمية، فهي المنطلق والمرجع لبناء المظرية.

ومع ذلك ظل النقاش مفتوحا حول معيار الحكم على صلاحية نظرية علمية ما.

فعلى ما تتأسس صلاحية علمية نظرية ما؟ هل على العقل أم التجربة؟ أم عليهما معا؟ ماهو معيار علمية نظرية ما؟

يميز "كارل بوبر" في "دفاع عن العلم والعقلانية" بين النظريات التجريبية والنظريات اللاتجريبية مستخدما أداة أو معيارا للتمييز يسميه "القابلية للتكذيب أو القابلية للتنفيذ". فالنظرية التجريبية هي النظرية التي تتضمن، بشكل مسبق، منطوقا قابلا لأن يكون كاذبا، وليس أن تكون منطوقاتها أو فروضها دائما صادقة أو صحيحة. إن العلم التجريبي، أو النظرية التجريبية، هي التي تنتظر أن تفند، في يوم ما، تجريبيا. إن القابلية للتكذيب أو التفنيد، هي القابلية للاختيار، والتي تفرض تبيين قصور وعيب النظرية، ويشبه "بوبر" هذا المعيار، باختيار جزء من آلة ميكانيكية، فكلما اكتشفنا خلل هذه الآلة، إلا وتقوت إمكانات هذه الآلة.

إن ما يضفي على نظرية ما طابعها العلمي، هو تماسكها أو الانسجام المنطقي بين مكوناتها، لذلك يلتجئ العالم في بناء نظريته إلى فروض إضافية واختبارات متكررة؛ هذا العمل التجريبي والمنطقي، هو الذي يخرج العلم من عزلته ويضمن له قوته ومشروعيته المعرفية. في هذا الاتجاه يرى بيير تولي في كتابه "اشتغال العلم ورهاناته"، أن النظرية العلمية تستمد قوتها وتماسكها من الفروض الإضافية والاختبارات المتعددة التي تخرج النظرية من عزلتها وتربطها بفروض نظرية أخرى.

تركيب

إن النظرية العلمية التجريبية الأصلية هي التي تستطيع أن تقدم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز نقط ضعفها، فهي تخضع بصفة قبلية فروضها لمعيار القابلية للتكذيب.
كما أن الذي يضفي كذلك على نظرية علمية ما قوتها وتماسكها هو تلك الفروض الإضافية والاختبارات النتعددة التي تخرج النظرية من عزلتها وتربطها بنظريات أخرى.


خلاصة عامة

إن المتأمل لاشتغال  مفهومي النظرية والتجربة في المعرفة العلمية، يدرك، بالرغم من التوتر والصراع الظاهر بينهما، التكامل والتداخل الكبيرين بينهما، فهما يكونان معا النظرية العلمية التجريبية، ومن تم أمكن تجاوز الثنائية التقليدية بين الفلسفتين الاختبارية والعقلانية، إذ ساهم الحوار بين النظرية والتجربة في إعادة صياغة مفاهيم علمية وفلسفية أساسية: العقل والواقع؛ التجربة والخطأ واليقين والكذب..فبإمكاننا القول إنه لا وجود لنظرية علمية عقلية خالصة، كما أنه لا وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل. فانغلاق النظرية على ذاتها هو فناؤها، وانغلاق العقل على ذاته هو عزلته ونهايته.
تعليقات