ملخصات الفلسفة | المجزوءة الرابعة : مفهوم الحرية


ملخصات الفلسفة | المجزوءة الرابعة : مفهوم الحرية


الحرية

ملخصات الفلسفة | المجزوءة الرابعة : مفهوم الحرية


تقديم المفهوم


كل واحد منا عاش في لحظة ما تجربة الحرية، كما عرف مرارة الموانع التي تحد من ممارسة حريته. ومع ذلك فمفهوم الحرية عندما نفكر فيه، ونسعى إلى تعريفه وتحديده، نصطدم بتعقده وصعوبته. فهو مفهوم يرتبط بمجالات متعددة (حرية التفكير، حرية الفعل...)، ويفترض مقاربات متنوعة. ومما يزيد من تعقد المفهوم كونه يعتبر قيمة أخلاقية، بل أساس كل القيم، إذ بدونه تنهار فكرتا المسؤولية والإرادة بوصفهما شرط قيام الإنسان بواجباته الأخلاقية.

فما الحرية؟ وهل حرية الإنسان مطلقة أم مشروطة؟ ما علاقة الحرية بالقانون؟



الحرية والحتمية


لقد ارتبط التفكير في مفهوم الحرية، مع اليونان، بنشأة المدينة الدولة، وبقدرة الفرد على الممارسة السياسية، التي كانت حقا فقط. ومن ثم فإن الحر ليس مقابلا للسجين، وإنما هو من يتمتع بحق تدبير شؤون المدينة. وقد اتجه التفكير في مفهوم الحرية، مع الفلسفة "الأبيقورية" و"الرواقية"، إلى البحث في علاقة الحرية مع الضرورات الداخلية (اللذات والرغبات) والخارجية (الحتمية الطبيعية). فلم يعد الحر مقابلا للعبد، بل الحر هو من استطاع التخلص من الرغبات، وعاش وفق قوانين الطبيعة وحتميتها. وقد تحول التفكير في المفهوم، في الثقافة العربية الإسلامية الوسيطة، إلى تفكير في علاقة الفعل الإنساني مع الفعل الإلهي. وهو الإشكال الذي حاول "ابن رشد" حله داخل إطار إشكالي ديني (الجبر والاختيار)، بالتأكيد على أن الإنسان يمتلك حرية مشروطة بقوانين الطبيعة والجسد المخلوقين من طرف الله. ذلك أن "أفعالنا تكون مسببة عن تلك الأسباب التي من خارج، وكل مسبب يكون عن أسباب محدودة مقدرة، فهو ضرورة محدود ومقدر" (ابن رشد، الكشف عن مناهج الأدلة).

وفي سياق فلسفي معاصر، مرتبط بالحرية والحتمية الطبيعية، كما طرحت في العلم الفيزيائي، يرفض "ميرلوبونتي" أن يكون الإنسان حرا بشكل مطلق كما قال بذلك "سارتر"، كما يرفض القول بأن الإنسان خاضع لحتميات طبيعية، واجتماعية، أو تاريخية، أو نفسية، هو القول الذي دافعت عنه بعض المواقف الوضعية في العلوم الإنسانية، متأثرة بذلك بالنظريات العلمية الفيزيائية. إن "اختيارنا لما نفعله بحياتنا يتم دائما على أساس وضعية معينة أو معطى معين" (ميرلوبوتي، فينومنولوجيا الإدراك)؛ فالإنسان، حسب "ميرلوبونتي"، كائن موضوعي موجود في العالم ومع الآخرين. ووجوده معطى أولي، محكوم بعوامل كثيرة، فيها جانب من الحتمية، لكن هناك هامش من الصدفة والاحتمال. وفي خضم هذه العوامل، يستطيع الإنسان تغيير اتجاه حياته، كما يستطيع أن يمنحها معنى بشكل حر وإرادي.

تركيب

لا يمكن إذن تصور الفعل الإنساني حرا بشكل مطلق. إنه فعل يتركب من حرية الاختيار والقدرة والإرادة، إلا أنه محدود ومشروط بقوانين الطبيعة. والقول بحرية مطلقة وهم، كما أن نفي الحرية هو قول خاطئ. فالإنسان في العالم يوجد في وضع معطى أولي وتلقائي، ومحدود بعلاقاته مع الآخرين.



حرية الإرادة


لقد اهتم الفكر الفلسفي الحديث بإشكال حرية الإرادة الإنسانية في سياقات معرفية وأخلاقية وسياسية. وإذا كان بعض الفلاسفة قد اعتبر الإنسان فاقدا لهذه الإرادة أمام سلسلة العلل الطبيعية التي تحكمه، فإن "ديكارت" قد اعتبر المعرفة المجال الوحيد الذي تستطيع الإرادة الحرة أن تختار فيه بحرية وأن تصدر أحكامها. في حين اعتبر "كانط" مجال الأخلاق هو المجال الحقيقي لهذه الإرادة الحرة. إن الإنسان بوصفه كائنا عاقلا، لا يستطيع وضع قواعد عقلية للفعل الإنساني، والخضوع الحر والإرادي لها.

وهكذا فإن الفعل الأخلاقي لا يمكن أن يتحقق في غياب إرادة حرة وعاقلة.

إن حرية الإرادة، في التصور الكانطي السابق، تعني تحرر الإنسان من قبضة الطبيعة والأهواء، إذ لا يشعر بحريته إلا داخل الممارسة الأخلاقية؛ وهي الممارسة التي اعتبرها "نيتشه" الأساس الفعلي لإرادة الحياة. إن "المثل الزهدي" كما تمثله الأخلاق المسيحية، وبعض الفلسفات، كفلسفة "كانط"، قد أقصت كل ماهو مادي، غريزي وحسي في الإنسان. وأن المطلوب فلسفيا هو مقاومة هذا "المثل الزهدي"، بإرادة حرة تطلب الحياة التي ترفض أخلاق العبيد وضعفهم أمام الأسياد.

تركيب

يعتبر كل كائن عاقل كائنا يتمتع بحرية الإرادة والقدرة على القيام بالفعل الأخلاقي، إذ لا معنى للفعل الأخلاقي في غياب الحرية والإرادة. والإرادة الحقيقية هي إرادة الحياة، إلا أنها إرادة تم نفيها بفعل أخلاقية "المثل الزهدي". فإذا كان المثل الزهدي قد مارس قوته بفعل إرادة المعنى الذي أعطاه لحياة الإنسان، إلا أنه داخل هذه الإرادة قد تم إقصاء كل ما هو إنساني في الإنسان.



الحرية والقانون


إذا كان "كانط" قد ربط بين الحرية والقانون الأخلاقي جاعلا منه مبدأ إدراك الإنسان لحريته، فإن فكر الأنوار (القرن السابع عشر) نظر إلى مفهوم الحرية في علاقته بمفاهيم الدولة، والمجتمع، والسياسة والقانون السياسي. فأصبحت الحرية حقا تحدد القوانين مجاله، وتضمنه غبر تشريعات مقننة. فالحرية هي ما تسمح به القوانين من أفعال، داخل المجتمع والدولة. وكما بين ذلك "مونتسكيو" فالحرية هي الحق في القيام بكل ما تسمح به القوانين. فإذا كان مواطن يستطيع القيام بفعل تمنعه القوانين، فلن تكون له في المستقبل حرية، ما دام الآخرون لهم أيضا نفس القدرة على فعل ما يشاؤون"(مونتسكيو، روح القوانين).

والإنسان حسب "روسو"، لم يشعر بحريته، ولم يتسن له ممارستها إلا في إطار القوانين المنظمة لها. وعليه فإنه لا يمكن تصور مفهوم الحرية خارج القانون. وقد يعتبر البعض أن القول السابق يضمر تناقضا، إذ كيف يمكن القول بحرية تضمنها القوانين، علما أن وظيفة هذه الأخيرة التقنين والمنع. والحال أن التناقض الحقيقي هو القول بالحرية وعدم النظام، إذ الفوضى وغياب القوانين من شأنهما التشجيع على هيمنة منطق القوة.

وينتج مما سبق، أن اعتبار الحرية حقا لكل الناس، أمر يفترض توفر نظام سياسي وقوانين ينظمان هذه الحرية، ويضمنان مجال تعايش الحريات. لذلك لا مجال للحديث عن الحرية إلا داخل المجال السياسي، حيث يمارسها الإنسان بشكل فعلي وملموس بإقامة علاقات مع الآخرين في مجالات عمومية، والتنقل بكل حرية وأمان، والتعبير عن آراء بدون قيد. لهذه الاعتبارات تنتقد "حنا أرندت" المواقف الفلسفية التي حصرت مجال الحرية في القلب والإحساس، مؤكدة "أن الحرية، بوصفها واقعا قابلا للبرهنة عليه، ترتبط بالسياسة ارتباطا تلازميا، وتشكلان معا وجهين لنفس الشيء" (حنا أرندت، أزمة الثقافة). إنها إذن تجربة واقعية وفعلية، ومجالها الحقيقي والوحيد هو مجال السياسة والساحات العمومية حيث إمكانية الفعل والكلام.

تركيب

الحرية لا تعني أن نفعل ما نشاء، إنما تعني فعل ما نريده، حسب ما تسمح به القوانين. فالقوانين هي وحدها التي تحدد ماهية الحرية وقيمتها، وهي التي تمنع كل شطط في استعمال السلطة. والمجال الحقيقي للحرية هو المجال السياسي والحياة العامة.


خلاصة عامة

تشكل الحرية قيمة عليا يطمح إليها الإنسان، إلا أن المفهوم جد ملتبس. لقد ارتبط المفهوم بمفاهيم الضرورة والحتمية، وبإشكالات دينية وفلسفية وسياسية. إلا أنه يظل دالا على قيمة القيم التي بدونها لا يمكن للإنسان أن يحقق ما يسعى إليه من أفعال أخلاقية.
فالقيام بالواجبات والعمل على بلوغ السعادة أمران يفترضان بالضرورة امتلاك الشخص لحرية الفعل والإرادة. غير أن الحرية لا تعني فعل ما نشاء، وإنما أن نفعل وفق القوانين التي تسمح بتعايش الحريات.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-