ملخصات الفلسفة | مجزوءة السياسة
الحق والعدالة
تقديم المفهوم
يرتبط مفهوم الحق بمفهوم العدالة ارتباطا وثيقا. فلا عدالة بدون حقوق، ولا حقوق بدون عدالة.
ويمكن اعتبار ارتباطهما من أروع الإبداعات البشرية. فهما يعتبران من القيم السامية التي توجه المؤسسات والتشريعات البشرية. فالحق قاعدة قانونية وأخلاقية ترسم للإنسان ما يجب عليه القيام به وفق مطالب الحياة الجماعية التي تفترض وجود معيار مقبول باسم مبدإ عادل. فالحق المضمون والمعترف به هو الذي يسمح، من حيث كونه مبدأ عقليا أخلاقيا، للفرد باستعمال قدراته الجسدية والفكرية بحرية من دون قيد غير الاقتناع بضرورة القيام بالواجب.
فعلى أي أساس تقوم العلاقة بين الحق والعدالة؟ ومن أين يستمد الحق مشروعيته؟ وما علاقته مع الإنصاف؟
الحق الطبيعي والحق الوضعي
كل من يفكر في الحق يجد نفسه يفكر في هذا الانتقال الأساسي من حالة الطبيعة إلى المدنية التي في إطارها تحمي حيوات الأفراد والجماعات من كل أشكال الفوضى والعنف. وبهذا المعنى فإن تأسيس الحق هو تأسيس للمجتمع، أو بالأصح لإمكانية المجتمع المدني المبني على المبادئ التي يقبلها العقل المقدر للعواقب الوخيمة للعنف والوحشية، والمتماشية مع ما يمكن اعتباره حقا لكل فرد في أن يعيش حياة آمنة مع الجماعة، في إطار من الاحترام المتبادل والتعاقد الاجتماعي.
فالعقل الإنساني اكتشف، بنوع من الحساب، ضرورة التنازل عن الحرية المطلقة للحفاظ على حقوق طبيعية ملائمة له (الحق في الحياة؛ الحق في الأمن؛إلخ). ويمكن القول إن تأسيس المجتمع والتمدن قام على تبين العلاقة بين الحق الطبيعي والحق الوضعي.
فقد قدم "طوماس هوبز" في كتابه "اللفيتان" تصورا محددا لهذا التمييز حين ميز بين "حقه الطبيعة" المرتبط بالحرية التامة للفرد للعيش وفق أنانيته الهمجية والوحشية، وبين "حقه الطبيعي" في الحياة الآمنة الذي اكتشفه العقل بناء على قانون طبيعي، اكتشف بمقتضاه ضرورة التنازل عن الحرية الطبيعية المطلقة لمصلحة التعايش الجماعي. "فالعقل، كما يقول "هوبز"، هو الذي يقوم بتعديل وتصحيح ما هو في الطبيعة" مما يجعل الناس تكتفي: "بنفس القدر من الحرية الذي يكتفي به الآخرون" حسب تعبير "هوبز".
أما "جون جاك روسو" فتحدث في كتابه "العقد الاجتماعي" عن أهمية بناء الحق على أساس التعاقد. فالتعاقد هو أساس الانتقال من حالة الطبيعة إلى الحالة المدنية السياسية، أي أساس التحول من التوحش إلى التحضر والتمدن، ونمو قدرات الإنسان الجسدية والفكرية. فبفضل هذا التعاقد ووضع القانون على أساسه يربح الإنسان الحرية المدنية ويضمن ملكية جميع ما يقتنيه، ويخسر القوة والوهم والهمجية والحيوانية ويتحرر من سجن الشهوات. فيتحرر من عبوديته الحيوانية ويطيع القوانين التي وضعها لنفسه، وبذلك يحصل على حريته.
تركيب
يمكن القول، إن أهم إنجاز أنجزه الإنسان على مستوى الفكر السياسي، كان هو تأسيس فكرة الحق باعتباره معيارا منظما لحياته في علاقته بذاته وبغيره، بناء على التمييز بين مضامين الحق الطبيعي والحق الوضعي، وجعل الثاني يفضل الإنسان عن حالته الطبيعية ويدخله إلى حالته المدنية المعترفة ببعض حقوقه الطبيعية الملائمة لجوهر طبيعته الإنسانية المتمثلة في الحق في الحياة والأمن، وربط حريته بتنازله عن حيوانيته وقوته.
العدالة باعتبارها حقا
يستمد الحق قوته ومشروعيته من معيار يقبله البشر عن طواعية لاعتماده مبدأ في الفصل بين ما يعتبر حقا وما لا يعتبر حقا. لذلك سيتم النظر إلى العدالة باعتبارها تجسيدا للحق وتحقيقا له. فلا وجود لحق إلا داخل قوانين عادلة. والعدالة باعتبارها مساواة بين المواطنين تروم تحقيق الحق وإلزام الناس باحترام القواعد المتفرعة عن الإقرار به. لهذا ف"الحق يتكلم القانون، والقانون يقول الحق".
يرى "باروخ سبينوزا" في كتابه، "رسالة في اللاهوت والسياسة"، العدالة باعتبارها ما يضمن حق كل واحد في الحفاظ على حياته ومصلحته بالتساوي. وليس على حساب الغير. لهذا فغاية النظام السياسي الديمقراطي هي تجاوز سيطرة الأهواء والنزوات على الناس، وجعلهم يحتكمون إلى العقل الذي يقودهم إلى احترام القانون المجسد للحق المضمون للجميع. وهذا هو جوهر القانون المدني الذي يجعل الحق أساس العدالة، والعدالة باعتبارها حقا معترفا به. لهذا يقول "سبينوزا": "يسمى العدل والظلم، أيضا، بالإنصاف وعدم الإنصاف، لأن من واجب القضاة المكلفين بوضع حد للخصومات ألا يفرقوا بين الأشخاص، بل أن ينظروا على قدم المساواة، ويحافظوا بقدر متساو على حق كل منهم".
في نفس الاتجاه، يربط الفيلسوف الفرنسي "إميل شارتي" بين الحق والمساواة، وبالتالي العدالة. فالحق هو المساواة لأنها ما يضمن حق كل واحد كيفما كانت ظروفه وسياق فعله. لهذا يقول آلان: "لقد ابتكر الحق ضد اللامساواة، والقانون العدالة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية، سواء كانوا رجالا، أو نساء، أو أطفالا، أو مرضى، أو جهالا". فالمساواة لا يمكنها أن تكون فارغة، بل لها مضمون فعلي هو الاعتراف بحق الجميع والعمل به.
تركيب
إن العدالة هي تجسيد لفكرة الحق. ولا يوجد حق خارج عدالة قوانين الدولة. لهذا فإنه إذا كان بإمكان فرد أن ينتهك قانونا عاما اتفق الجميع على احترامه، فإن الدولة لا يمكنها أن تنتهك القوانين لأنها الضامن لاستمرارية العدالة. لهذا يربط "آلان" بشكل أساسي بين الحق والمساواة ولا يمكن أن تكون العدالة عدالة إلا بالتقائها بالمساواة.
العدالة بين الإنصاف والمساواة
تتطابق العدالة مع المساواة، لكن يحدث أن التطبيق الحرفي للقوانين يقع في الأخطاء، بل قد تكون بعض القوانين غير عادلة، لهذا فالإنصاف يجعل قوانين العدالة تستقيم مع الحالات الخاصة وتتكيف معها، لتجعل العمومية في مستوى الحالات الخاصة من دون فقدان روح القوانين لا حرفيتها.
ويعتبر "أرسطو" الفيلسوف الذي بين في كتابه "الأخلاق إلى نيقوماخ" علاقة المساواة مع الإنصاف، وكيف أن الإنصاف متمم للعدالة ومصحح لعمومية صياغة القوانين بالنسبة للحالات الخاصة التي لا تستوعبها عمومية الصياغة. وهكذا ف"المنصف هو عادل، بل هو أعلى من العادل بشكل عام" حسب تعبير "أرسطو".
ويوضح "جون راولس" في كتابه نظرية العدالة المبادئ الأساسية التي تقوم عليها العدالة في المجتمع، حيث تستمد هذه المبادئ من قاعدة الإنصاف. وهي قاعدة تقتضي، من جهة أولى، الاعتراف بحق كل الأفراد في الاستفادة بالتساوي من نفس الحقوق الأساسية؛ ومن جهة ثانية، عدم وضع عوائق أمام أولئك الذين، بحكم مواهبهم الطبيعية أو ظروفهم، يوجدون في وضع أحسن من الباقي، شريطة أن يكون للباقي حق الاستفادة أيضا من هذا الوضع ما أمكن. وهو ما يعني القبول بالمساواة في الحقوق والواجبات الأساسية على مستوى أول، والقبول بمبدأ اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية، مثل اللامساواة في الثروة والسلطة، على مستوى ثان.
إن القول بالإنصاف عند "راولس" يفيد المعنيين معا: حق كل الأفراد في الاستفادة بالتساوي من نفس الحقوق الأساسية، وعدم وضع عوائق أمام أولئك الذين سمحت لهم مواهبهم وظروفهم الاجتماعية ببلوغ مراتب عليا، على أن يفسح المجال أيضا للذين هم أقل منهم، في إطار تعاون جماعي إرادي، لبلوغ نفس المراتب واقتسام الثروات.
تركيب
تقوم العدالة عند "أرسطو" على مبدأي المساواة (بمعنى الجميع يخضع لنفس القوانين) والإنصاف (مراعاة الحالات الخاصة التي لا تستوعبها عمومية القوانين). وبهذا يكون الإنصاف تصحيحا للقوانين. أما عند "راولس" فالإنصاف هو التركيب الذي يجمع بين القبول بحق الجميع في الاستفادة من نفس الحقوق، وفي نفس الآن الفروقات التي تبرز بين الأفراد، لكن ليس على أساس قبولها النهائي وإغلاق أبواب الوصول إليها لمن أراد أو استطاع ذلك. فالإنصاف إذن، هو أكثر من العدالة، إنه العدالة وقد تحققت حتى في الحالات الأصعب والأخص.
خلاصة عامة
إن الحق قيمة عليا مطلقة تحكم بناء المجتمع والتمدن والحرية، فهو قيمة مؤسسة. ولا ينفصل الحق عن القوانين النابعة من العقل والأخلاق المجسدة لإنسانية الإنسان التي ما كان ليضمنها لو لم يكن هناك عقد اجتماعي يؤسس لها، ويجعل العدالة ممكنة، سواء كانت مساواة أو إنصافا، لأنها تبقى دائما محكومة بذلك الحق.