ملخصات الفلسفة | مجزوءة المعرفة : الحقيقة
مجزوءة المعرفة : الحقيقة
تقديم المفهوم
قد لا يخلو أي حديث يومي من استعمال لفظ الحقيقة، وكل واحد منا عندما يبحث عنها سواء في الإعلام أو في الماضي أو في الحاضر، سيجدها ليست واحدة على الأقل في مظاهرها وأشكالها.
فهل يستطيع الإنسان أن يدعي العثور عليها وامتلاكها؟
ولماذا نرغب فيها؟
يحكى عن الفيلسوف اليوناني "ديوجين الكلبي" أنه خرج ذات يوم يحمل مصباحا في واضحة النهار قاصدا السوق حيث عامة الناس منشغلون بحياتهم اليومية، فكان يردد هذه العبارة الغريبة "أنا أبحث عن الحقيقة". فهل يحتاج المرء في البحث عن الحقيقة إلى مصباح في واضحة النهار؟ أليس كل شيء واضحا وجليا في النهار؟ عماذا كان يبحث فعلا "ديوجين الكلبي"؟
تستعمل هذه الكلمة في سياقات ودلالات مختلفة، قد نقول إن ما يكشفه العلم هو الحقيقي مقابل الوهم والخطأ والخداع، كما تستعمل الكلمة عند الحديث عن حقيقة المشاعر والأفكار والمواقف وهل هي صادقة أم لا. كما تطرح الكلمة عند البحث عن حقيقة ما جرى في التاريخ والماضي لكي يفيد بناء الذاكرة الفردية والجماعية.
لقد أدرك تاريخ الفلسفة أهمية الحقيقة في وجود الإنسان، في لغته ومعرفته بالعالم، فسعت كل فلسفة إلى تقديم خطابها، بوصفه خطابا يبحث عن الحقيقة. فهل الحقيقة معطاة أم يتم بناؤها؟ ما معاييرها؟ وما قيمتها؟
الرأي والحقيقة
كان "أفلاطون" الفيلسوف اليوناني، يرى أن ما نراه ونعتقده ونظنه لا يمكن أن نثق فيه، فمعارفنا مرتبطة بما تعلمناه وسمعناه، والبحث عن الحقية يتطلب انقلابا جذريا ضد العادات والتقاليد، فالرأي هو الاعتقاد الذي لم يخضع بعد إلى محك السؤال والنقد؛ وحسب "أفلاطون"، لابد من التحرر من وهم وزيف عالم الحس والذهاب نحو الحقيقة العقلية الثابتة الميتافزيقية.
لكن ليس الحقيقة هي ما ينتمي للعقل وحده، لذلك يعتقد "باسكال" في "خواطره" أن العقل لا يمكنه معرفة كل شيء ولا يمكنه احتكار الحقيقة، فهناك طرق أخرى تؤدي إلى الحقيقة منها القلب أو العواطف أو الوجدان؛ ذلك أن حقائق العقل، والتي هي حقائق الاستدلال والبرهنة، تستمد من حقائق القلب، التي هي حقائق نحدسها بشكل مباشر دون الاستعانة بالاستدلال العقلي والرياضي، من هنا يمكن أن نتساءل لماذا يتعارض العلم مع الرأي؟
هل معرفتنا العلمية هي استمرار لمعرفتنا الأولية الانطباعية حول الأشياء؟
يرى "باشلار" الإبستمولوجي والفيلسوف الفرنسي، في كتابه "تكون الفكر العلمي"، أن العلم يتعارض مع الرأي، والرأي هو نتاج الانطباعات والاعتقادات المرتبطة بالتفكير التلقائي، فهو لا يفكر أو يفكر بشكل سيء.
من هنا نظرته الخاصة إلى تكون المعرفة العلمية، فعلى العالم، إذا أراد أن يكون معرفة موضوعية علمية، أن يتخطى عائق الرأي؛ فالحقائق العلمية هي أجوبة عن أسئلة محددة "فلا شيء يحدث تلقائيا، لا شيء يعطى، وإن كل شيء يبنى".
تركيب
تحاول الفلسفة البحث عن الحقيقة وتجدها في عالم غير معطى تبحث عنها بتجاوز عالم الرأي. لكن هناك حقائق يدركها القلب ويعجز العقل عنها، فالعقل يحتاج القلب لأنه ينطلق منها. بينما في المعرفة العلمية يكون الرأي عائقا أمام تكون المعرفة العلمية، فهو لا يفكر، وإذن ينبغي هدمه وتخطيه.
معايير الحقيقة
إذا كانت الفلسفة تبحث عن الحقيقة وتجاوز عالم الرأي، وتحكم على الخطاب بأنه حقيقي أو غير حقيقي، فمن أين تستمد الحقيقة قوتها؟ ما معايير الحقيقة؟
لقد أعلن "ديكارت" في "مقال في المنهج" عن ضرورة صياغة قواعد منهجية لبلوغ الحقيقة. فالمنهج هو تفكير منظم يقوم على أربع قواعد، وهي: قاعدة الشك، والتحليل والتركيب والمراجعة. وأساس بلوغ الحقيقة، هي فكرة البداهة العقلية. فما هو حقيقي هو بديهي يتميز بالوضوح، فكانت أول حقيقة فلسفية توصل إليها ديكارت هي الكوجيطو: "أنا أفكر إذن أنا موجود".
في نفس الاتجاه يعتقد "سبينوزا" أن ماهو بديهي يفرض نفسه بوضوحه التام، والحقيقة معيار ذاتها، فهي تظهر بذاتها مثل النور ولا تحتاج إلى ما يكشفها أو يؤكدها، بل هي التي تكشف كل شيء؛ والبداهة ليست هي ما يتبادر توا إلى الذهن كما اعتقد "ديكارت"، بل هي الحقيقة المفروضة على الذهن.
يقول "سبينوزا" إنه "بانكشاف النور ينقشع الظلام، فالحقيقة هي معيار ذاتها ومعيار الخطأ".
لكن هل ترتبط هذه الحقيقة بالبداهة العقلية فقط؟
قد تكون الحقيقة مادية ومعيار صدقها هو التجربة، إنها تتطابق ليس مع العقل ذاته، ولكن أساسا مع ما يثبتها في الواقع. وهذا ما أرادت أن تؤكد عليه الاتجاهات الاختبارية والعلمية التجريبية.
كما أن الحقيقة أيضا هي خطاب يرتبط بما يجلب للإنسان من نفع ومصلحة. فمعيار الحقيقة حسب الاتجاه البراغماتي هو صدقه الذاتي وما يجلبه من منفعة للإنسان. فالإنسان يبحث دوما عن حلول لمشاكله اليومية، وخطابه حول الحقيقة يربطه بالنتائج العلمية لكل قول؛ فقد يكون العلم والتقنية نافعين للإنسان لأنهما يقدمان حلولا لمشاكله اليومية، من هنا ارتبطت الحقيقة كذلك بالخطاب العلمي والتقني في مواجهه الخطابات النظرية والميتافزيقية.
تركيب
ترتبط الحقيقة بمعايير عديدة، كمعيار البداهة العقلية، الذي يعني مطابقة العقل لذاته، فالحقيقي هنا هو الصادق والخطأ أو الوهم هو ضد الحقيقة. كما أن الحقيقة ترتبط بالواقع عندما يكون معيارها مدى مطابقتها للواقع. وقد تكون كذلك نفعية عملية وذاتية عندما يكون معيارها المنفعة، ومن هنا يأتي القول "لكل خطاب أو قول حقيقة".
الحقيقة بوصفها قيمة
لم يرغب الإنسان في الحقيقة؟ وهل الحقيقة منفصلة عن اللاحقيقة والعنف والحرية؟
إن قيمة الحقيقة لا تتحدد في ضوء ما تقدمه من صدق وصحة، بل أساسا فيما تكشفه من أوهام وأخطاء. فالحقيقة هي استعارات حسية تحولت إلى حقائق صلبة بفعل التحويل والاستعمال. "فما ينتمي إلى طبيعة الأشياء ليس هو المعرفة، بل الخطأ".
والحال أن هذه النظرة السلبية للحقيقة لا تقف عند هذا الحد، فإن الوجه الآخر للحقيقة هو العنف، كما يؤكد "إريك فايل" في كتابه "منطق الفلسفة" أن الفلسفة تريد أن تفهم، إنها تفكر بواسطة الخطاب العقلي المعقول، ومقابل الحقيقة ليس الخطأ أو الكذب أو الوهم، بل العنف. ويكون الإنسان متطابقا مع ذاته، أي مع الخطاب المتماسك الذي يفكر في العالم، لأنه عالم الشقاء والجوع والعنف.
ومع ذلك من الصعوبة الفصل النهائي بين الحقيقة واللاحقيقية، فلا يمكن تحديد ماهية الحقيقة إلا إذا أخذنا اللاحقيقة بعين الاعتبار.
وإذا كان التيه هو بنية داخلية للكينونة، وهو مجال مفتوح لكل ما هو مضاد للحقيقة، وخاصة عالم الخطأ، فإن التيه بهذا المعنى، يكون جزءا من حقيقة الإنسان وعلامة على إبداعه وغناه.
إن الحقيقة مع "هايدغر" هي إقامة علاقة وطيدة بما يحيط بنا، والاقتراب أكثر من لغة الوجود. ومن ثمة فماهية الحقيقة هي الحرية والتأويل والتيه.
خلاصة عامة
انتقل خطاب الحقيقة من مشكلة المعرفة إلى مشكلة الوجود والقيم عندما أصبحت الحقيقة تأويلا وحرية ومواجهة للعنف واللامعنى.
إن اللاحقيقة لا تقوم خارج الحقيقة بل تنتمي إليها، لا يمكن تحديد ماهي الحقيقة إلا إذا أخذنا اللاحقيقة والتيه بعين الاعتبار، وما يقابل الحقيقة ليس هو الخطأ وإنما هو العنف.
كل مجتمع يبني حقائقه ويرسخها ضدا على حقائق أخرى، فالحقيقة نسبية ومتعددة، لذلك تبدو الحقائق محكومة بالسياق أو الجهة التي تصدر عنها، وبالمقابل يمكن القول إن الحقائق القائمة على البناء المنهجي والمفاهيمي والنقدي أكثر صلابة اليوم، كالحقيقة الفلسفية والعلمية.