ملخصات الفلسفة | مجزوءة السياسة : العنف


ملخصات الفلسفة | مجزوءة السياسة : العنف


مفهوم العنف

ملخصات الفلسفة | مجزوءة السياسة : العنف


تقديم المفهوم


إن مجال السياسة هو مجال الحد من العنف عبر احتكار ممارسته من طرف الدولة. لهذا يقال إنه بمجرد ما يتم التخلي عن السياسة، يفتح باب العنف والفوضى: الحروب الأهلية، التطهير العرقي...وقد نعتبر الحرب استمرارا للسياسة بطرق أخرى كما قال "كلاوزوفتش". كما يمكن اعتبار السياسة حربا مدنية مستمرة بوسائل مغايرة. لا يمكن إذن إدراك مجال السياسة في غياب العنف، مادام هذا الأخير هو الوسيلة الحاسمة في مجال السياسة كما يقول "ماكس فيبر". إن السياسة هي مجال تحويل قوي للعنف: من العنف بكل أشكاله إلى الحملات الانتخابية، المناقشات في البرلمان، الحوارات في البرامج التلفزية والإذاعية، تأسيس الأحزاب والنقابات والجمعيات.. فمحل قوة العضلات تحل قوة الجماعة والأغلبية التمثيلية والحوار. ولا تعمل السياسة على إلغاء مطلق لوسائل العنف واستخدامها، بل تسعى إلى تمركزها في يد السلطة السياسية التي هي وحدها القوة المسلحة (الجيش، البوليس) التي تمارس العنف المشروع عندما يقتضي الدفاع عن النظام العام لذلك أو مواجهة الخطر الخارجي، أي مواجهة التهديد سواء كان داخليا أو خارجيا. ويمكن القول إن فكرة التهديد هاته هي التي قام عليها الفكر السياسي الحديث.



أشكال العنف


ينبغي تمييز العنف عن العدوانية، إذ تبقى هذه الأخيرة حسب "كونراد لورنتر"، في كتابه "الإنسان في نهر الكائنات الحية" الميزة العامة للكائن الحي، في إطار استراتيجية بقاء النوع والحفاظ عليه. فهي لا تستهدف التدمير بقدر ما تستهدف البقاء والحفاظ على النوع. فالعدوانية تقوم في مملكة الحيوان بدور حيوي وأساسي. وبهذا المعنى فالعدوانية طبيعة في الإنسان كما في الحيوان. أما العنف فهو مكتسب، ويرتبط بتعقد الحياة الاجتماعية التي تطورت من مراحل الصراع من أجل السيطرة على الموارد إلى الدفاع عما جمعه الإنسان وراكمه من موارد: من الصراع بالأيادي إلى استخدام الأدوات، فالآلات الذكية اصطناعيا، وأخيرا الأسلحة الاستراتيجية التي تمتلكها القوى العظمى. إنه التطور الذي يشهد عليه تطور الحروب عند البشر، من الاقتتال الفردي المباشر بأبسط الأدوات إلى الحروب الاستباقية التي لا يتواجه فيها الأفراد مباشرة، بل عبر توسط الأسلحة الاستراتيجية. وبهذا المعنى لا يصح الحديث عن العنف إلا بالنسبة للإنسان. لذلك فإن الحرب، باعتبارها عنفا، ليست هي العدوانية كما قد يعرفها علم دراسة الحيوانات. وكما يقول "إيف ميشو"، "إن الإنسان حيوان غريب، يلتهم كل شيء، وذكي، يستعمل أدواتا وأنساقا رمزية معقدة، متحركة، ومضطربة لا يتوفر عليها أي حيوان آخر".

غير أن هناك أشكالا أخرى للعنف، انتبه إليها المحللون، كالعنف الرمزي القائم على ممارسة القهر والحط من معنويات الخصم باحتقاره وبتغيير صورته عن نفسه، وهو ما تشهد عليه مختلف أشكال السب والقذف والشتم والإهانة والإساءة التي يبدعها الخصوم فيما بينهم عبر الألقاب والتسميات التي تتلاعب بمكونات هوية الأفراد والجماعات.

يمكن القول إذن، إن كل تعريف دقيق لأشكال العنف ينبغي أن يأخذ بعين الاعتبار هذا المعطى. لهذا يعرف "إيف ميشو" العنف، بأنه "كل فعل تدمير يستهدف، بشكل مباشر أو غير مباشر، جسد شخص آخر، أو نفسيته أو انتماءاته الثقافية أو الرمزية. فالعنف ليس مجرد إلحاق الأذى الجسدي بشخص ما، أو جماعة، وإنما أيضا هو فعل يتوخى التدمير النفسي، عبر التعذيب، وتدمير الممتلكات، واستهداف لغة جماعة معينة أو ثقافتها أو معتقداتها موجه من طرف قيم محددة ضد قيم أخرى مغايرة".

تركيب

يشكل العنف امتدادا للعدوانية وتطورا لها، من حيث إنه ليس بالضرورة تدميرا جسديا، إذ يمكن أن يكون أيضا تدميرا رمزيا.




العنف في التاريخ


عندما نتحدث عن دور العنف في التاريخ، فإننا في الواقع نتساءل عن حقيقة دوره، سواء بمعناه السلبي أو الإيجابي. فهل التاريخ البشري تاريخ عنيف بالضرورة؟ وهل يؤدي هذا العنف في التاريخ دوما دورا سلبيا؟

تصعب قراءة تاريخ الإنسان بدون استحضار دور العنف فيه، سواء كان إيجابيا أو سلبيا؛ لهذا يكشف تاريخ الإنسان عن أشكال عديدة للعنف، هي في الواقع تجسيد لمستوى التعقد الذي وصلت إليه الحياة الجماعية بخصوص احتكار المواد واقتسامها.

لقد حاول التحليل الماركسي، كما نجده عند "إنغلز" في كتابه ضد "دوهريغ"، أن يظهر العنف باعتباره عاملا من عوامل التاريخ، لكنه ليس محركا له، إذ الصراع الطبقي بين المالكين وغير المالكين لوسائل الإنتاج هو المحدد الحاسم لحركة التاريخ، فالشرط الاقتصادي يبقى أساسيا في تحديد حركة التاريخ التي لا يمكن للعنف أن يوجهها كما تطور قوى الإنتاج.

أما "فرويد" فيقدم في كتابه "أفكار لأزمنة الحرب والموت" قراءة تاريخية لميلاد العنف عند الإنسان في علاقة بفكرة الحق. ففي البداية ارتبط العنف بالقوة العضلية للقوي، ثم في المرحلة الثانية من تطور البشر، بالقوة العضلية المسلحة بالأدوات وبالمهاراة. ولكن المرحلة الحاسمة بالنسبة "لفرويد" في تاريخ تطور العنف، هي عندما ارتبط استخدام القوة المسلحة بالتفوق العقلي، ليحل محل القوة العضلية بغرض فرض الاختيار على الطرف الآخر أو إلغائه بتصفيته (بقتله). غير أن الطريق الذي أدى من العنف إلى القاعدة الأخلاقية كان هو اتحاد الضعفاء ضد القوي، وكان الاتحاد هو أساس القانون الذي قوض عنف الفرد الواحد. وبهذا المعنى يحق الحديث عن الحق كقوة للجماعة وكحد للعنف. وهكذا فتاريخ العنف هو تاريخ ميلاد الحق، وتاريخه هو تاريخ هذا التوتر الدائم بينهما.

تركيب

ليس العنف حدثا طارئا وعرضيا في التاريخ البشري، بل هو حاضر بقوة محركة له، وقد يشكل تاريخ العنف مصدرا من مصادر ميلاد الحق.



العنف والمشروعية


هل هناك عنف شرعي فقط أم هناك أيضا عنف مشروع؟ إن القول بعنف مشروع، أي عنف، كيف ما كان شكله، هو قول قد ينطوي على حدين متناقضين، إذ كيف يصبح العنف مشروعا حتى من طرف الدولة الشرعية والتي تعمل على تحقيق المشروعية؟ هل يمكن اعتبار الإعدام أو التطهير العرقي في لحظة ما مشروعا؟ هل يمكن اعتبار الاستعمار، والعنصرية، والتمييز بين الجنسين... من الأمور المشروعة، علما أن العنف في نهاية الأمر هو انتهاك لإنسانية الإنسان؟ هل يمكن للفلسفة في لحظة ما أن تقوم بتمجيد العنف، كيف ما كان مصدره، علما أن العنف هو إحدى مشكلات الفلسفة التي تريد أن يختفي العنف من العالم كما يقول "فايل"؟ هل تعترف الفلسفة بالعنف المشروع باعتباره وسيلة تقنية ضرورية فقط إذا كانت هذه الوسيلة ستساهم في إحلال اللاعنف وترسيخه؟ أم أن الضرورة تجعل الفعل مشروعا، مثل ما نقول في حالة الحرب؟ ومع ذلك يظل الإحراج أكبر: كيف يمكن استعمال العنف المشروع دون المساس بكرامة الشخص؟ أم علينا التمييز بين العنف الذي هدفه البناء والتأسيس، وبين العنف الذي يروم الهدم والتخريب؟ يرى "ماكيافيلي" أن ما ينبغي إدانته هو العنف الذي يولد الخراب وليس العنف البناء، لكن "حنا أرندت" تقول "يمكن أن يكون العنف مبررا، لكنه لا يكون أبدا مشروعا."، لتضيف: "ما تحتاج إله السلطة هو المشروعية وليس العنف".

إن مشروعية العنف تطرح دائما صعوبات كثيرة نظرا لطبيعة الآثار التي يمكن أن  تنجم عنه. لذلك لا يجوز مواجهة العنف الصادر عن السلطة ذات الشرعية بعنف غير مشروع، لأن ذلك بدون معنى ونتائجه غير مقبولة بحسب التصور الذي قدمه "كانط" في كتاب "العلاقة بين النظرية والتطبيق في القانون السياسي"، والذي يستبعد فيه: "كل قانون مزعوم لخرق القانون" ويعتبره بدون معنى.

فالعنف لا يوجد بالعنف. وإذا كان هذا هو موقف "كانط"، فإن "إريك فايل" يرى في كتابه "منطق الفلسفة" أن العنف لا يمكنه أن يكون مشروعا، لهذا تواجهه الفلسفة وتقاومه. فهو علة وجودها كخطاب عقلاني متماسك يتجاوز العنف المدمر. إن الفلسفة رفض جذري للعنف وفهم حق له ولخطورته، لهذا فهي ترفضه.

تركيب

تطرح مشروعية العنف صعوبات كثيرة بحكم ارتباط العنف بممارسة الدولة من جهة، ومن جهة ثانية من حيث المراهنة المعاصرة على دولة الحق والقانون.


خلاصة عامة

يجب تمييز العدوانية عن العنف، فالأولى طبيعية والثاني ارتبط بالتطور الاجتماعي والاقتصادي للمجتمع الإنساني. لهذا اتخذ العنف أشكالا عديدة بحسب الدرجة التي وصل إليها التطور الاقتصادي والتقني والأخلاقي للبشر. فهو لصيق بالإنسان، ولم يجد وسيلة للحد منه غير التعاقد الاجتماعي والتنظيم السياسي، لهذا قيل عن العنف إنه في جوهره ضد السياسة وإلغاء لها. مما يجعلنا نفهم جيدا لماذا ارتبط عند المفكرين والفلاسفة بالمشروعية. فهي الحد الوحيد الذي استطاع الإنسان أن يقيمه بينه وبين العنف، فلا يقبله إلا إذا كان مشروعا داخل دولة الحق والقانون.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-