ملخصات الفلسفة | مجزوءة المعرفة : العلوم الإنسانية


ملخصات الفلسفة | مجزوءة المعرفة : العلوم الإنسانية


المجزوءة الثانية: المعرفة 

العلوم الإنسانية

ملخصات الفلسفة | مجزوءة المعرفة : العلوم الإنسانية


تقديم المفهوم


يبدو أن الميلاد المتأخر للعلوم الإنسانية، داخل حقل المعرفة البشرية بوجه عام، له دلالته المعرفية والتاريخية. فبعد أن تمت السيطرة على الطبيعة الفيزيائية وفق تصور رياضي عقلاني للكون، شجع نموذج العلمية، الذي تم بناؤه في النماذج العلمية التجريبية، علماء الإنسان في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فما عسى هذا العالم الحديث أن يقول عن الإنسان؟

يشير مصطلح العلوم الإنسانية إلى العلم الذي يدرس الإنسان. فالإنسان كائن واع وراغب ومريد، يتصور ويتخيل ويعيش داخل المجتمع. وقد جاءت هذه العلوم في بدايتها، تحمل انتصار التصور العلمي الوضعي في مناهجها وقوانينها للظاهرة الإنسانية في أبعادها النفسية والاجتماعية والتاريخية والتاريخية والثقافية.

غير أن انتصار نموذج التصور العلمي الوضعي أغفل عالم المعيش ومعنى الوجود الإنساني. فهل استطاعت هذه العلوم أن تنتج معرفة موضوعية علمية بالظواهر الإنسانية؟ وهل للمناهج التفسيرية والمناهج التفهمية نفس القيم الإبستيمولوجية والفلسفية في هذه العلوم الإنسانية؟ ماهو نموذج العلمية الذي تقترحه هذه العلوم؟



موضعة الظاهرة الإنسانية


هل الإنسان موضوع طبيعي يشبه باقي الموضوعات الطبيعية؟
هل تقبل ظواهره التحديد الدقيق والتكميم وتخضع لقوانين حتمية ضرورية؟

حاولت النزعات الاختبارية الوصفية موضعة  الظاهرة الإنسانية والتعامل معها باعتبارها شيئا موضوعيا ومستقلا عن الذات. فقد أسس "أوغست كونت" الفيزيائية الاجتماعية التي ستعرف فيما بعد باسم علم الاجتماع، لدراسة الظواهر الاجتماعية دراسة موضوعية ومادية تبعد الظواهر الإنسانية عن كل تناول لاهوتي وميتافزيقي. وهو نفس التوجه الذي اختاره عالم الاجتماع "إميل دوركايم" الذي طالب في "قواعد المنهج" بضرورة دراسة الظواهر الاجتماعية باعتبارها أشياء.

هذا التوجه الوضعي الذي استلهم المنهج التجريبي، خصوصا في علم الاجتماع وعلم النفس الفيزيائي والسلوكي، سيواجه نقدا أساسيا في ضوء إثارة المشكلات الخاصة التي يولدها تداخل الذات بالموضوع في مجال العلوم الإنسانية.

وفي هذا السياق يقدم "جان بياجي" في كتابه "إبستمولوجيا العلوم الإنسانية" الوضعية الإبستمولوجية لهذه العلوم والصعوبات التي يواجهها، ومن أهم هذه الصعوبات الخاصة وضعية التداخل بين الذات والموضوع؛ فعملية "إزاحة تمركز الذات حول ذاتها"، والتي هي عملية ضرورية لتحقيق الموضوعية، تكون أكثر صعوبة في الحالة التي يكون فيها الموضوع هو الذات. فأنا الملاحظ، حسب "بياجي"، هي جزء من الظاهرة التي يدرسها العالم من الخارج، كما ان الذات تكون أكثر انخراطا في الظاهرة وأكثر ميلا للاعتقاد في معرفتها الحدسية بالواقع. إن الذات في العلوم الإنسانية هي ذات واعية ومتكاملة وقادرة على الترميز، وهذا ما يجعل الموضوعية، التي هي شرط أساسي لموضعة الظاهرة، مسألة صعبة جدا، فالعالم في مجال العلوم الإنسانية، ليس بذات معزولة، بل هو ملتزم بقضايا فلسفية وإيديولوجية تؤثر بشكل مباشر على نتائج عدة. وهذا المعطى يكون أقل حضورا في الأبحاث الرياضية والفيزيائية.

إن الباحث في مجال العلوم الإنسانية إذن، لا يستطيع الانفصال كلية عن مجتمعه الذي هو موضوع دراسته، في حين يعتقد "فرانسوا باستيان" أن هذا الانفصال هو مبدأ كل جهد علمي. من هنا لا يمكن للباحث الابتعاد عن عالمه الاجتماعي ولو رغب في ذلك، إذ لابد من فهم التجربة الجماعية أو الفردية التي يعيشها الآن. فالمعرفة تحقق بالمشاركة والانخراط وليس بالابتعاد والانفصال.

وكل أبحاث العلوم الاجتماعية اليوم تذهب في اتجاه تحقيق تباعد الباحث عن جماعته والتحكم في انخراطه فيها، محترما في ذلك ما سماه "ماكس فيبر" بمبدأ الحياد العلمي.

تركيب

هناك صعوبات أساسية تواجهها مسألة موضعة الظاهرة الإنسانية بالمقارنة مع الموضعة في علوم الطبيعة، فالإنسان هو الدارس، وهو موضوع الدراسة في نفس الوقت. وينتج عن ذلك صعوبة تحقيق الموضوعية. فالعالم في مجال العلوم الاجتماعية يعيش مفارقة كبرى، فهو جزء من الجماعة البشرية التي يدرسها، ومطالب بالتباعد عنها وموضعتها. إنه مطالب بأن يميز بين أحكام الواقع وأحكام القيمة.



التفسير والفهم في العلوم الإنسانية


إذا كانت عملية التفسير تحتل مكانة خاصة في العلوم الحقة، لأنها عملية عقلية تسمح باستنتاج اللاحق من السابق، والخضوع للضرورة المنطقية التي لا تسمح فقط بالتفسير بل أيضا بالتنبؤ، فهل يمكن القول بإمكانية التفسير في العلوم الإنسانية؟

يجيب "كلود ليفي ستروس" في كتابه "الأنتربولوجية البنيوية" عن هذا السؤال، بأن وضعية العلوم الإنسانية وضعية حرجة، فهي ليست بعلوم تفسيرية ولا بعلوم تنبؤية، إنها تقع بين التفسير والتنبؤ، فهي لا تفسر الظواهر تفسيرا نهائيا ولا تتنبأ بيقين تام؛ فبإمكان نتائجها أن تكون وسطا بين المعرفة الخالصة والمعرفة النافعة.

وهنا لابد من أن تشتغل العلوم الإنسانية على نموذج العلمية الذي أثبت جدارته في مجال العلوم الحقة إذا أرادت أن تكون علوما لها فعالية وتأثير.

لكن الفيلسوف والعالم الألماني "فيلهايم دلتاي" يرفض استلهام نموذج العلوم الحقة وتطبيقه على العلوم الإنسانية، لأن هذه الأخيرة هي علوم روحية. فالظاهرة الإنسانية بالنسبة له ظاهرة تفهم وتؤول ولا تفسر. فالتجربة الإنسانية هي تجربة كلية وليست معطاة أو جزئية، يتداخل فيها ما هو نفسي وما هو اجتماعي. فالمناهج التجريبية الموضوعية التي تعتمد على المعايير الخارجية تعجز عن النفاذ إلى المعنى العميق لتجربة كلية تأخذ شكل كل معيش. إن الفهم والتأويل هما اللذان يقودان إلى النفاذ داخل الحياة الممتلئة والدالة.

تركيب

إذا كانت العلوم الحقة قد حققت تقدما بفضل عمليتي التفسير والتنبؤ، فإن وضع العلوم الإنسانية لازال يتأرجح بين التفسير والتنبؤ. إنها علوم محكوم عليها بأن تظل في وسط الطريق، بين التفسير والتنبؤ.
هناك فرق بارز بين موضوع العلوم الطبيعية وموضوع العلوم الإنسانية يفرض على العلوم الإنسانية منهجا يلائم موضوع الإنسان، وهو المنهج القائم على الفهم والتأويل.



نموذجية العلوم التجريبية


يطرح نموذجية العلوم التجريبية بالنسبة للعلوم الإنسانية التفكير في الأسس التي تقوم عليها هذه العلمية. فإمكانية تبني نموذج المنهج التجريبي وتكييفه مع خصوصية الظاهرة الإنسانية، جعلت الباحثين "فيليب لابروت- طولرا" و"جون بيير وارنيي" يقدمان موقفا متميزا يعتبران فيه أنه "لا توجد قطيعة مع العلوم الطبيعية" على مستوى تدخل الذات، فهما يفترضان أن هناك شيئا من نموذجية العلوم التجريبية يحضر، غير أنه حضور مقنن ومشروط.

بينما الفيلسوف الفرنسي "ميرلو-بونتي" يشكك في إمكانية النفاذ إلى عمق الوجود الإنساني إذا ما تم استخدام مناهج المعرفة الموضوعية. إن النموذج التجريبي يميل أكثر إلى تجزيء الإنسان ونسيان تجربته الذاتية التي هي أساس وجوده الموضوعي.

يقوا "بونتي": "إن الرجوع إلى الأشياء ذاتها هو الرجوع إلى المعيش قبل أن يكون موضوع معرفة".
فنموذج علمية العلوم التجريبية، يجعل من معرفة الإنسان لذاته معرفة على نمط المعرفة الموضوعية، والعلم، بأدواته المنهجية التقنية، ينسى تجربة أساسية هي تجربة المعيش الكلي للإنسان.

تركيب

إن الوضع الإبستمولوجي الذي تعرفه العلوم الإنسانية، والناتج عن تداخل بين الذات والموضوع، وضع لا ينبغي اعتباره أمرا سلبيا، بل بالعكس هو مناسبة لتكييف المنهج التجريبي مع خصوصية الظاهرة الإنسانية، غير أن تطبيق نموذج العلوم التجريبية يقصي تجربة الذات في العالم، تلك التجربة الكلية المعيشة التي تشكل أساس المعرفة بذواتنا.


خلاصة عامة

لقد سمح لنا النقاش الإبستمولوجي، حول مسألة علمية العلوم الإنسانية، بالتعرف على خصوصية الظاهرة الإنسانية وما تعرفه من تعقد واضطراب، وأيضا ما تطرحه من إشكالات إبستمولوجية ترتبط بالمنهج وبنموذج العلوم الحقة.
وقد ساهم هذا النقاش في إعادة التفكير في نموذجية العلوم التجريبية، ليس باعتبارها النموذج الوحيد للعلمية، ولكنه النموذج الذي يجب استلهامه وتوظيفه في بناء نموذج العلمية الخاص بالعلوم الإنسانية.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-