ملخصات الفلسفة | مجزوءة السياسة : الدولة
المجزوءة الثالثة: السياسة
تقديم عام
تحتل رمزية الكرسي مكانة خاصة في التعبير عن مضامينها ورهاناتها. فهو يرمز للأدوار التي يقوم بها الأفراد والجماعات، وللمكانات التي يحتلونها، وللمواد والرمزية التي يتحكمون فيها. ويمكن قراءة لوحة "روني ماغريت"، حكاية القرون، وفق هذا المنظور، على أساس أن السياسة ممارسة وتدبير لعلاقات القوة، سواء تعلق الأمر بمكانة الأفراد أو بأدوارهم أو علاقاتهم بالمواد باسم القانون وبواسطة قوة عمومية. ويمكن اعتبار العلاقة بين الكرسيين الكبير والصغير علاقة أساسية: أيهما يعطي قيمة للآخر؟ لهذا لا يمكن التفكير في السياسة دون التفكير في الدولة بوصفها الإطار العام لهذه الممارسة، ولا بدون التفكير في العنف عدو السياسة وخصمها، ولا في العدالة والمساواة اللتين تعتبران الأفق الأخلاقي والقيمي لهذه الممارسة.
لهذا تستدعي السياسة أربعة مفاهيم أساسية هي الدولة، العنف، والحق والعدالة: لأن المفهوم الأول يحددها بتنظيماتها، والثاني بما يهددها ويخالفها، والثالث بما تقوم عليه، والرابع بما تنشده.
فمن أين تنبع ضرورة الدولة، وما طبيعة ممارستها؟ وكيف تقيم توازنا بين الحق والعنف؟
كيف يتجلى العنف بإشكاله في التاريخ، وبأي معنى يمكن للعنف أن يكون له مشروعية؟
كيف يتحقق الحق بين التعاقد المتفق عليه، من جهة، وطبيعة الإنسان من جهة أخرى؟
كيف يكون الحق أساس العدالة؟
الدولة
تقديم المفهوم
عرف الإنسان بأن حيوان سياسي، لأنه يعيش داخل جماعة بشرية تحتاج إلى تنظيم علاقاتها وفق مبادئ يفرضها العقل ويقوم عليها التعاقد. وهو ما يحتاج إلى إطار مؤسساتي عام اصطلح على تسميته بالدولة. وهي تحضر بقوة في جميع مراحل حياتنا، منذ الولادة حتى الوفاة؛ بوثائقها وشواهدها ومصالحها وموظيفها ومؤسساتها الاقتصادية والتربوية والثقافية والاجتماعية السياسية في علاقاتنا ببعضنا البعض، وبالموارد، سواء كانت مادية أو رمزية.
والواقع أن تعريف الدولة يؤكد ضرورتها، فهي مجموعة من المؤسسات السياسية والقانونية والعسكرية والإدارية والاقتصادية التي تنظم حياة الفرد والجماعة داخل مجال ترابي محدد. إنها أشكال تنظيمية تحضر داخل العائلة وفي الشارع وفي المدرسة وفي المجال العمومي، وتتجسد فيها قوة الدولة أو ضعفها وقوانينها وإكراهاتها. وهو ما لا يمكن لها أن تضمنه إلا بدوامها واستمرارها المجسدين في سلطة دائمة تخشى الفراغ وتعمل على ملئه. وهو ما تعبر عنه العبارة الشهيرة: "مات الملك، عاش الملك"؛ كما لا تستطيع أن تستمر إلا إذا كانت شأنا عاما ومجالا مشتركا، مما يخلصها من الطابع الخاص ويجعلها أمرا مشتركا بين الناس.
إن كل تساؤل عن الدولة، هو في الحقيقة تساؤل عن أشكال تنظيم حياتنا السياسية والاجتماعية والثقافية، وتساؤل عن غاياتها ووظائفها ووسائلها؛ وعن مدى مشروعيتها وأسسها، فما الدولة؟ كيف تمارس سلطتها السياسية؟ وما علاقة ممارستها مع العنف؟
مشروعية الدولة وغاياتها
كل من فكر في الدولة، وجد نفسه مضطرا للتفكير في أساس مشروعيتها وغاياتها، لأن الدولة لا يمكنها أن تقوم بشكل دائم إلا على أساس دائم أو يقبل كذلك. وهو ما يسمى بمشروعيتها التي تضمن لها القبول الدائم بها. ولم يفصل التفكير في المشروعية قط عن التفكير في الغاية، لأنهما مرتبطان معا بشكل لا يقبل الفصل.
ويرجع الفضل لفلاسفة العقد الاجتماعي في تأسيس مشروعية الدولة على أساس التعاقد المبني على الاعتراف بالحقوق الطبيعية للناس في الحياة والأمن بما يضمن المدينة ويبعد خطر الوحشية والعنف، أو السيطرة باسم الدين. فالبشر، حسب نظرية التعاقد، أحرار ومتساوون بالطبيعة، ولكن العقل يلزمهم بالتخلي عن كل مفهوم مطلق لحريتهم وأنانيتهم، بما يسمح لهم بالعيش الجماعي الآمن والحر المعقول.
ويعتبر هذا المعطى موضوع اتفاق بين جل الفلاسفة، غير أنهم يختلفون فيما يخص معنى الحرية وحدودها التي يتمتع بها الفرد. "فجون لوك" لا يمنح للدولة سلطات كبيرة، إذ يحصر مجال تدخلها في العمومي المشترك، ويبعدها عن المجال الخاص للأفراد، سواء فيما يخص الملكية أو العقيدة، ضمانا لحرية الأفراد وحماية لها من تسلط محتمل للدولة.
وعلى خلاف ذلك يدافع "طوماس هوبز" في كتابه "اللفيتان" عن سلطة مطلقة للدولة من خلال السلطة المطلقة للحاكم، ليس بغاية التسلط والانفراد بالحكم، بل بغاية ضمان السلم العام وممتلكات الأشخاص. فقوة الدولة وإطلاقية سلطتها ضمان للسلم وحماية من الفوضى و"حرب الكل ضد الكل" التي قد تولدها الحرية المطلقة لكل واحد.
وكيف ما كان موقف الفلاسفة من مسألة الحرية الفردية و الجماعية، فإن مشروعية الدولة وغاياتها ترتبط ارتباطا كاملا. فالفيلسوف "باروخ سبينوازا" في كتابه "اللاهوت والسياسة" يرى أن غاية الدولة هي تحرير الناس من الخوف وضمان حقهم الطبيعي في الأمان، وفي استخدام قدراتهم الجسدية والفكرية دون أن تمس بحرية الآخرين، ولا بحقهم الطبيعي. فالحرية هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة، وبالتالي فالخضوع لها وفق المطلب العقلي هو الخير العام. فمشروعية الدولة تأتي من غاياتها التي هي ضمان حرية الأفراد في التفكير والحكم حسب "سبينوزا".
أما "هيغل" فيعطي لغاية الدولة مضمونا آخر، ففي كتابه "مبادئ فلسفة الحق"، يرى أنها تحقيق لمبدأ العقل المحايث للعالم الطبيعي والإنساني والمجسد في الفكرة الأخلاقية الموضوعية والجوهرية التي تجعل من الدولة تركيبا يجمع العائلة والمجتمع المدني، ويتجاوزهما بتحقيق الحرية كقيمة عليا تتجاوز ضمان الأمن وحماية الملكية ومصالح الأفراد إلى ما هو عام وجوهري. إن العام هو شرط وإطار تحقيق الخاص. والمعنى الحق لحرية الأفراد الموضوعية، يتحقق بانتمائهم للدولة التي تعبر عن المضمون الفعلي للحياة الجماعية بحيث لا تتعارض الدولة المجسدة للعقل مع حرية الأفراد.
تركيب
إن الغاية الأساسية من وجود الدولة، هي توفير شروط تحقيق "كمال الإنسان" بما يجعله يحيا وفق طبيعته العقلية الخاصة التي تبعده عن حريته الأنانية وتقربه من حرية التعبير والحكم بما يتلاءم وغاية الوجود الجماعي الذي تمثله الدولة. فمن هنا تنبع مشروعيتها، وهذه هي غايتها.
غير أن "هيغل" يرى أن غاية الدولة هي أن تحقق وفق مبدإ عقلي جوهري وكوني بحيث يجعلها هذا التحقق تسمو على كل المضامين الجزئية والفردية لحريتهم، لتعبر عن المضمون الحق للحرية المطابقة للعقل. "لأن مصير الأفراد، حسب "هيغل"، هو أن يحيوا حياة عامة وكونية".
طبيعة السلطة السياسة
إن تحقيق الدولة لغاياتها، يقتضي اشتغالا معينا لمؤسساتها يسمح لها بممارسة سلطتها، وقد شكلت هذه السلطة السياسة موضوع تفكير الفلاسفة الذين تساءلوا عن طبيعتها وآلياتها. وسجل العديد منهم أهم مراحلها في الانفصال عن الديني والارتباط فقط بما هو دنيوي. ويعتبر كتاب "الأمير" "لنقولاي ماكيافيلي" محطة أساسية في الكشف عن طبيعة السلطة السياسية. إذ بين طابعها البراغماتي والواقعي، الذي يجعلها سلطة تستخدم كل الوسائل الممكنة حتى لو جعلها ذلك فوق الأخلاق. فالأمير مطالب، بحكم طبيعة السلطة السياسة، أن يكون ثعلبا وأسدا، أي قويا وماكرا؛ لأن طبيعة السلطة السياسية هي الصراع الذي لا يستوجب فقط القوة، بل المكر، أيضا، والجمع بين القانون والقوة.
"فالأسد لا يستطيع حماية نفسه من شباك الفخاخ، والثعلب غير قادر على مواجهة الذئاب، وعلى الأمير أن يكون ثعلبا لمعرفة شبكة الفخاخ ويكون أيضا أسدا ليخيف الذئاب".
إن هذه المهارة هي التي رآها ابن خلدون في الاعتدال المولد للسلطة السياسية لأن: "الكيس والذكاء عيب في صاحب السياسة لأنه إفراط في الفكر، كما أن البلادة إفراط في الجمود. والطرفان مذمومان في كل صفة إنسانية"، بما فيها الصفة السياسية.
تركيب
أظهر كتاب "ماكيافيلي" طبيعة السلطة السياسية، من خلال مواصفات الأمير وأسلوب عمله. فلم تعد تقوم على حق إلهي، وإنما أصبحت تتأسس على قدرات ومهارات الأمير. فالسياسة صراع يعتمد القوة والمكر، الذكاء والدهاء. ومن هنا يمكننا أن نستشف الطابع الإشكالي للسلطة الذي يجعل منها دائما موضوعا رهان، حتى لو كان الاعتدال هو صفتها كما عند ابن خلدون الذي يرى أن العلاقة بين السلطة والرعية ينبغي أن تكون محكومة "بالتوسط كما في الكرم مع التبذير والبخل، وكما في الشجاعة مع الهجوم والجبن". فهي بهذا المعنى ممارسة متحركة بين القوة والضعف، بين المعرفة والجهل بحسب الظروف والملابسات.
الدولة بين الحق والعنف
لكن، سواء أكانت السلطة السياسية مبنية على الاعتدال أو على الجمع بين المكر والفكر، أو بين القوة والحيلة، فإنها تبقى دائمة داخل جدلية العنف والحق، على اعتبار أن العنف يبقى دائما حاضرا في الدولة، إما تمارسه هي على الأفراد باسم حقها في ذلك، أو تحاربه عند غيرها، سواء كان داخليا (حرب أهلية، إجرام) أو خارجيا باعتباره تهديدا لكيانها. لهذا يقدم لنا التاريخ نماذج عديدة لدول بحسب درجة عنفها وطبيعة العلاقة القائمة بين العنف والحق. فالدولة، سواء كانت حديثة أو قديمة، ديمقراطية أو استبدادية، لا يمكنها أن تستغني عن ممارسة العنف، بكيفية معينة، قد تقرب ممارستها من الاستبداد والتسلط أو من المشروعية والحق. فما هي طبيعة هذه العلاقة؟
يرى "ماكس فيبر" في كتابه العالم والسياسي أن ما يميز الدولة الحديثة هو بالضبط احتكارها لممارسة العنف المشروع الذي لا يتناقض مع طابعها العقلاني والقانوني. فالعنف المادي المشروع الذي تمارسه الدولة هو عنصر تعريفها الحقيقي الذي يتبناه كل تصور حديث للدولة، لأنه يخلصها من تاريخ طويل للتسلط سيطر فيه القوي على الضعيف لمجرد أنه قوي. لهذا فممارسة العنف المشروع من طرف الدولة هي ترجمة عملية لمفهوم الحق على مستوى الدولة، لأنها تضمن الأمن والاستقرار الجماعيين. وبهذا الحق في ممارسة العنف المشروع تضمن باقي الحقوق. إن هذا الضمان هو المضمون الفعلي لكل سياسة: أي الجمع بين المشروعية والإجماع، وهو ما يجعل عنفها مقبولا ومعترفا به من طرف الجميع. غير أن افتقاد الشرعية والإجماع قد يجعل الدولة تأخذ طابعا خاصا يجعل عنفها لا مشروعا لا يقبله المجتمع، ويعتبر تسلطا واستبدادا، يفصل الدولة عن المجتمع وعن أخلاقه وعن الحق، كما ذهب إلى ذلك المفكر المغربي "عبد الله العروي" في كتابه "مفهوم الدولة". إن الرهان الأكبر الذي تطرحه علاقة الدولة بكل من العنف والحق، هو رهان دولة الحق والقانون.
تركيب
لا يمكن الفصل بين الدولة من جهة، والحق والعنف من جهة أخرى. فهي بهما وبينهما؛ وتدبرهما بما يتلاءم ومصالح المجتمع ومطالب العقل. فالدولة تمارس العنف المشروع باسم الحق. فالعنف وسيلة الحق. ومتى تبع الحق العنف كانت الدولة دولة متسلطة، وافتقدت مشروعيتها وشرعيتها، ومعها افتقدت الإجماع وانفصلت عن المجتمع، الأمر الذي يجعلها غريبة عنه، ويراها كوحش بارد حسب تعبير "نيتشه". لهذا فالعنف المبني على الحق هو الذي يجعل الدولة مقبولة من طرف المجتمع، لأنها بعنفها المشروع تخلق المجتمع بحمايته من كل أشكال العنف الأخرى.
خلاصة عامة
نستخلص أن الدولة مؤسسة أساسية بالنسبة للمجتمع، لأنها تستمد مشروعيتها من غاياتها المتمثلة في تحرير الإنسان من الخوف والفوضى وتوفير شروط العيش وفق ما تقتضيه طبيعة قدراته الجسدية والفكرية، في إطار تعاقد اجتماعي منظم لممارسة السلطة السياسية بطريقة تجمع بين الفكر والعمل، الذكاء والدهاء، الوفاء والخديعة، والاعتدال أو المبالغة. ويتحقق التوازن بين الحق والعنف بتحقق أساس كل دولة معترف بها حقا، في أفق تأسيس دولة الحق والقانون.