ملخصات الفلسفة | المجزوءة الرابعة : الأخلاق


ملخصات الفلسفة | المجزوءة الرابعة : الأخلاق


ملخصات الفلسفة | المجزوءة الرابعة : الأخلاق


تقديم عام


في "أصداء السيرة"، للأديب الكبير "نجيب محفوظ"، وصف دقيق لحالة التناقض التي يمكن أن يعيشها الإنسان أو يحسها في لحظة من حياته، وهو يسعى بحثا عن السعادة. وتمثل حالة التلميذ، وهو مسوق  إلى المدرسة، نموذجا لبداية التحول والانتقال من الحرية "المطلقة" إلى المؤسسة بما تفرضه من حدود وإلزام، وما تقتضيه من واجبات قد تدفع المرء إلى البحث عن السعادة في الماضي.

يقول "نجيب محفوظ" في "سيرته": "ذهبت ذات صباح إلى مدرستي الأولية محروسا بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن. بيدي كراسة وفي عيوني كآبة، وفي قلبي حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقي شبه العاريتين تحت بلطوني القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير: بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضا. غمرتني موجة من الفرح طارت بي إلى شاطئ السعادة، ومن صميم قلبي دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد".

لذلك عملت الأخلاق، بوصفها قواعد معيارية للسلوك، على حماية الإنسان من هيمنة الأهواء وما قد يصدر عنها من عنف تجاه ذاته أو غيره. كما عمد المجتمع إلى تأكيد هذه القيم، وعمل على ترسيخها من خلال تحديد الواجبات التي على كل فرد القيام بها.

فهل الحياة داخل المؤسسات، والخضوع للنظم الأخلاقية سجن يفقد فيه الإنسان حريته؟ وهل السعادة تكمن فعلا في التحرر من سلطة القيم والمجتمع؟



مفهوم الواجب


تقديم المفهوم


يتحدد الفعل الإنساني داخل مجموعة من المعايير التي تمنحه قيمة أخلاقية أو تعتبره فعلا لا أخلاقيا. وقد يقع بصدد هذه المعايير إجماع، وقد تختلف من مجتمع إلى آخر. إلا إنها، في الحالتين معا، تظل هي تلك المثل العليا التي يصبو إليها الفعل، ليصبح حاملا لقيم تتوافق والقانون الأخلاقي. ولا يمكن لأي فعل أن يتصف بصفة الأخلاقية ما لم يكن صادرا عن الشعور بالواجب الذي يفترض النية والإرادة، كما يفرض القيام بالفعل بغض النظر عن كل مصلحة ذاتية. علما أن الواجب هو كل فعل أخلاقي يكون على المرء القيام به، إما بشكل إلزامي مقرون بالإكراه أو على شكل التزام حر وواع. فالواجبات قد يخضع لها المرء تلقائيا بحيث تسري في أفعاله سريان العادة، وقد يشعر بها جاثمة على إرادته بضغوطات وإكراهاتها، فيتجه نحو بناء واجبات إضافية يطبعها بطابعه الذاتي والعقلي. كما قد يلتزم الإنسان بالواجبات التزاما واعيا ويمارسها بإرادته، وقد يسعى إلى جعلها واجبات مطلقة وكونية تتجاوز نسبية تلك القيم وارتباطها بمجتمعه وثقافته.

فما الواجب؟ وهل هو إلزاما أم التزاما؟ كيف يتحقق الوعي الأخلاقي؟ وما طبيعة العلاقة بين الواجب والمجتمع؟



الواجب والإكراه


لقد شكل مفهوم الواجب، مع فلسفة "كانط" بالخصوص، منطلق كل تفكير في الفعل الأخلاقي. فالذي يضفي على فعل ما قيمة أخلاقية، هو مدى احترام هذا الفعل للقانون الأخلاقي الذي يشرعه العقل الإنساني، وتجسده الإرادة الخيرة والحرة. إنها إرادة لا تخضع لأي مبدإ خارجي موجه لها، كما لا تخضع للميولات الذاتية التي توجه الفعل الإنساني نحو غايات معينة، والتي قد تأتي أحيانا متوافقة مع القانون الأخلاقي، ومع ذلك لا يستحق ذلك الفعل قيمة أخلاقية، لأنه لم يصدر عن احترام القانون الأخلاقي، وإنما صدر عن دوافع أخرى، صادف أن تطابقت مع القانون الأخلاقي. إن الواجب كما يقول كانط "يطالب، وبشكل موضوعي، بفعل مطابق القانون، لكن وبشكل ذاتي، يطالب بمبدإ الفعل واحترام هذا القانون باعتباره النمط الوحيد المحدد للإرادة". إن الشعور باحترام القانون الأخلاقي، بالرغم مما يصاحب ذلك الاحترام من آلام، والسعي إلى القيام بالفعل امتثالا فقط للقانون هو الواجب. ومع أنه واجب يحمل طابع الإكراه والإلزام، مادام يعارض كل الميولات الذاتية، إلا أنه مع ذلك واجب يتسم بالالتزام والحرية، لأن الشخص لا يخضع إلا لتشريعات العقل والإرادة والحرية الواعية.

غير أن التأكيد على الطابع الإلزامي والعقلي للواجب، قد يجعل الفعل الإنساني فعلا صوريا، مجردا من الحياة ومن المعاناة التي تبرز أحيانا في كثرة الواجبات، وأحيانا أخرى في صراع الواجبات ذاتها. لذا يمكن اعتبار القيام بالواجب نتاج قدرة طبيعية تدفع الفرد إلى القيام بفعل ما، لا بسبب إكراه وإلزام، وإنما فقط استجابة لميل طبيعي في الإنسان. يستند الواجب إذن، وكما عبر عن ذلك "جان ماري غويو"، إلى قدرة داخلية تمتاز في طبيعتها عن القدرات الأخرى، "فأن يشعر المرء شعورا داخليا بما هو قادر على فعله من أمر عظيم، فهذا شعور أول بما يجب عليه فعله. فالواجب من وجهة نظر الوقائع، وبغض النظر عن الأفكار الميتافيزيقية، إنما هو فيض من الحياة يريد أن ينصرف وأن يجود بنفسه" (جون ماري غويو، الأخلاق بلا إلزام ولا جزاء). وهذا معناه أن الفرد الذي يهب لمساعدة صديقه، إنما يفعل ذلك بشكل طبيعي. هكذا يعدو الواجب شعورا غريزيا من جهة، ومن جهة ثانية يتناسب وقدرة كل فرد بدون أي إكراه.

تركيب

تكمن أهمية مفهوم الواجب في مساهمته في بناء تصور نظري معياري للفعل الأخلاقي، بوصفه فعلا صادرا عن كائن عاقل، ملتزم بالقيم العليا التي يجسدها في علاقاته بالآخرين.



الوعي الأخلاقي


يقصد بالوعي الأخلاقي، قدرة الفكر على إصدار أحكام معيارية على الأفعال الإنسانية، محددا بذلك معايير الاختيار بين الأفعال، ومميزا فيما بين الخير والشر، بين الفضيلة والرذيلة. إنه ذلك الضمير الأخلاقي الذي نشعر بقوته لحظة الفعل والاختيار. فما مصدر الوعي الأخلاقي؟

قد نعتبر الوعي الأخلاقي متجذرا في الطبيعة الإنسانية، أي إنه أشبه بالغريزة والفطرة، وهو بذلك تعبير عن الطبيعة الخيرة التي تميز الإنسان عن الحيوان، فتحمله على فعل الخير واجتناب الشر، دون أن يتطلب ذلك معرفة مسبقة بكليتهما. لذلك سيقول روسو إن أفعال الوعي ليست أحكاما بل أحاسيسا، ليضيف "إنه على الرغم من أن كل أفكارنا تأتينا من الخارج، فإن الأحاسيس التي نقدر بها الأفكار، فهي أحاسيس توجد بداخلنا، وبواسطتها وحدها ندرك التوافق أو عدم التوافق الموجود بيننا وبين الأشياء التي علينا احترامها أو النفور منها." "جون جاك روسو"، "إميل أو في التربية"، إن الوعي الأخلاقي وعي مطلق وكوني متأصل في الطبيعة الإنسانية.

ويمكن إرجاع مصدر الوعي أو الضمير الأخلاقي إلى المجتمع، حيث تعمل الجماعة عبر التنشئة والتربية على جعل الفرد يستبطن كل المعايير والأحكام التي تميز بين الخير والشر، وهي معايير قد تختلف من مجتمع إلى آخر، إلا أنها، ورغم ذلك، يكون هدفها إدماج الفرد في الجماعة وتحقيق القيم التي تضمن له السعادة والسكينة.

غير أن إرجاع أصل الوعي الأخلاقي إلى الفطرة والعقل، مع التأكيد على ما يمنحه هذا الوعي للفرد من إنسانية وسعادة، يجعلنا نتجاهل الظروف التاريخية والنفسية التي كانت وراء ميلاد هذا الوعي. وكما لاحظ "نيتشه"، فإن "أصل  التصورات الأخلاقية مثل الخطأ والضمير والواجب وقدسية الواجب، إنما يكمن في نطاق قانون الالتزام" (فريدريك نيتشه، جينيالوجيا الأخلاق). إن كثيرا من القيم الأخلاقية، مثل العهد، والوفاء، والإخلاص والواجب...، هي قيم ارتبطت بتلك العلاقة التجارية الأولى التي نشأت بين الدائن والمدين، وترسخت عبر أشكال العقاب الجسدي الذي مورس على كل من لم يتمكن من إرجاع ما اقترضه من غيره. إنه إذن وعي نشأ وترعرع بفعل المعاناة والشقاء الإنسانيين.

تركيب

قد نعتبر الوعي الأخلاقي متأصلا بشكل فطري في الإنسان، ومميزا له عن الحيوان، ومن ثمة فهو وعي يعبر عما يجعل الإنسان قادرا على التمييز بين الخير والشر. وقد يكون هذا الوعي مجرد تأويل أخلاقي لظواهر تجارية أولية.



الواجب والمجتمع


الإنسان فرد في جماعة، يتأثر بها ويؤثر فيها، يأخذ عنها قيما وتصوراتها الأخلاقية. ويمكن القول، مع علماء الاجتماع، إن الضمير الأخلاقي الفردي ما هو إلا صدى للضمير الجمعي، وأن المجتمع هو المصدر الوحيد المحدد للواجبات التي على الأفراد القيام بها، حتى لتغدو تلك الواجبات مجرد عادات تجثم على إرادة الأفراد وتوجه أفعالهم. وكما أكد "دوركايم" على أن "ضميرنا الأخلاقي لم ينتج إلا عن المجتمع ولا يعبر إلا عنه" (إميل دوركايم، التربية الأخلاقية)، فإن كل خروج عن هذه الواجبات، يواجه بصعوبات شديدة من طرف المجتمع الذي عليه حماية قيم الجماعة. لذلك يراهن هذا التصور على أهمية الأسرة والمدرسة وغيرهما من مؤسسات المجتمع لترسيخ الواجبات ضمانا لاستقرار أمن الجماعة وسعادة الأفراد.

ولا يمكن للمرء أن ينفي ما للمجتمع من سلطة في تحديد الواجبات وترسيخها، عبر مجموعة من المؤسسات؛ إلا أن حصر الواجبات فقط في إطار المجتمع من شأنه أن يجعل الواجبات الأخلاقية نسبية ومختلفة باختلاف المجتمعات من جهة، ومن جهة ثانية أن يضفي طابع الجمود على هذه الواجبات، وجعلها سجينة قيم المجتمع، مما قد يؤدي إلى انغلاق القيم والمجتمع معا، وهو أمر قد يولد صراعات وحروب بين المجتمعات. لذلك يقول "برغسون": "إن على الإنسان واجبات نحو الإنسان من حيث هو إنسان" (هنري برغسون، منبعا الأخلاق والدين)، ومعنى ذلك أنه لا بد من العمل على جعل الواجبات الأخلاقية تنفتح على الإنساني الكوني. فالتفكير في الواجبات الكونية من شأنه أن يساهم في توطيد العلاقات السلمية بين المجتمعات ويدعم التسامح والسلم.

تركيب

على الرغم من أهمية الواجبات التي يحددها المجتمع، وقيمتها في ترسيخ قيم المواطنة، إلا أنه من الضروري الاهتمام بواجبات كونية تضع الإنسان غاية لكل فعل أخلاقي.



خلاصة عامة

يطرح مفهوم الواجب جملة من الإشكالات التي حاول الفلاسفة الإجابة عنها، انطلاقا من تصورات ومقاربات مختلفة. إلا أنه ورغم اختلاف تلك التصورات، فقد حاولت إبراز دور المفهوم وأهميته في بناء معايير للفعل الأخلاقي، بوصفه فعلا صادرا عن كائن عاقل، ملتزم بالقيم التي عبرها يحقق إنسانيته ويجسدها في علاقات عامة مع الآخرين. علاقات لا تقوم على المنفعة والصراع، وإنما على رسم دقيق للمواطنة المشتركة من جهة، ومن جهة ثانية، المساهمة في إدماج واجبات المجتمع في قيم كونية تجعل من الإنسان غاية الغايات.
تعليقات