تحليل قصيدة لي في من مضى مثل - محمود سامي البارودي

تحليل قصيدة لي في من مضى مثل - محمود سامي البارودي


تحليل قصيدة لي في من مضى مثل - محمود سامي البارودي

المجزوءة الأولى:                          من إحياء النموذج إلى سؤال الذات 

                                            ـ إحياء النموذج

                                               نص شعري: لي في من مضى مثل   لمحمود سامي البارودي


إشكالية النص وفرضيات القراءة:

       في سياق النهضة عقب حملة نابليون على مصر سنة 1779، جاء التيار الإحيائي استجابة لحاجة الأمة العربية إلى سند للنهوض، بعد أن جمدت مظاهر الحياة الفكرية والأدبية، وضعفت اللغة الشعرية وغرقت في صنوف التكلف والتصنيع. وقد حاول بعض الشعراء (حسن العطار، عبد الله فكري..) التحرر من هذا الجمود وخوض غمار الإحياء، إلا أن محاولاتهم ظلت محتشمة إلى أن جاء الرواد الكبار البارودي وشوقي وحافظ فأحيوا القصيدة العربية بأصولها الفنية وقيمها الثقافية والجمالية مستلهمين روح الشعر العباسي والأندلسي. وقد تضافرت عدة عوامل في تشكيل شخصية محمود سامي البارودي (1839ـ 1905) والتأثير في شعره منها: نسبه غير العربي وتعلمه في المدارس الأميرية وثقافته العربية الأصيلة ومكانته العسكرية ونشاطه السياسي مما أهله إلى ريادة الشعر الإحيائي بكل إشراقه، والتعبير عن حياته وتجاربه وأزماته بتقليد موضوعاته الشعرية، فكانت تجربته بعثا وإحياء وتأسيسا. ألف في مختلف أغراض الشعر القديمة، وخلف ديوانا شعريا صدره بمقدمة حدد فيها مقاييس الشعر الجيد ومفهومه. والنص الذي بين أيدينا مثال لإحياء النموذج.  

      يوحي عنوان القصيدة "لي في من مضى مثل" باعتراف الشاعر بفضل فحول الشعراء القدامى عليه، فشعرهم مثلٌ يُحتذى. والمشيرات النصية من البيت 1- 6 - 19 تدلنا على أن موضوع القصيدة يتوزع بين الغزل والفروسية والصيد والحكمة، وترتبط هذه الموضوعات بالعنوان من حيث إحالتها على الماضي باعتبارها أغراضا قديمة للقول الشعري. وبالنظر إلى هندسة النص نلاحظ قيامه على نظام الشطرين المتناظرين، فهو جزء من قصيدة عمودية طويلة متعددة الأغراض، موضوعه الرئيس الفخر بالفروسية، ووصف الصيد، وتتصدره مقدمة غزلية على شاكلة المطالع الشعرية القديمة. 

 فما مضامين هذه القصيدة؟ وما خصائصها الفنية؟ وإلى أي حد تعكس ملامح خطاب إحياء النموذج مضمونا وشكلا ووظيفة؟



تكثيف معاني النص:

      يتمفصل النص إلى حزمة من التمفصلات الدلالية تبعا لتعدد موضوعاته، وهي:

ـ استهلال الشاعر قصيدته بمقدمة فنية غزلية ضمنها ما ألم به من لواعج الحب ومشاعر الصبابة ما استعاد به نشوة الصبا ونزعات الشباب، كما ضمنها خضوعه لسنن الأسلاف في نظم معاني الغزل الذين لم يتركوا معنى فيه إلا طرقوه.

ـ تركيب الشاعر لقطة تصوير ضعفه أمام سلطان الغرام على لقطة وصف قوته في الفروسية في انتقال سلس وحسن تخلص بديع. فوصف فرسه بلونه الأشقر وقوائمه المحجلة عدا اليمنى، وطواعيته له في ساحة الحرب كما وصف سيفه وحدته ولمعانه وسرعة فتكه بالأعداء.

ـ وصف رحلة الصيد ووفرة الطرائد وأنس الرفقاء في فلاة مستهل شتاء.

ـ اختتامه النص بأبيات حكمة تؤكد حقيقة العيش القائم على التوازن وصفاء الفطرة وحُسن الخلق وحسن التقدير والتدبير.



تحليل النص:

      - يمكن التمييز في النص بين إيقاعين خارجي وداخلي، وتتشكل موسيقى الإطار الخارجي من تفاعيل البسيط (مستفعلن فاعلن) أربع مرات، وعروض مخبونة وضرب مثلها وقافية مطلقة رويها مضموم موصول بصائت طويل (مد) متولد عن إشباع حركة الروي، والروي اللام لثوي مائع مجهور مسعف في توليد دلالات التفجع والتحسر والعناية والاهتمام والاستغراق في الفعل، يسنده تصريع وتقسيم موسيقي تناظري في امتداد إيقاعي عروضي صالح لتفريغ الشحنات الشعورية ومجد في الاسترسال الوصفي والتأملي، محافظ على معيارية الإيقاع التقليدي المتوالي في خيط عمودي ونسق من شطرين متكافئين إلى نهاية القصيدة لا يخرق هذا التكافؤ الإيقاعي غير أشكال المزاحفة والإعلال المطوعة لصرامة البحر ونمطية تفاعيله المولدة لتموجات إيقاعية تتسارع وتتباطأ حسب ما يستلزمه الموقف الانفعالي المتقلب بين الاستكانة والخضوع والقوة والصلابة. ويتشكل الإيقاع الداخلي من مجموعة من الظواهر الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية التي تفرز طاقات موسيقية تتماوج تبعا لمقامات التعبير النفسية ومستلزماتها التداولية، وأظهر هذه الظواهر التكرار بكل أشكاله كتكرار المواد الصوتية الشفوية واللثوية المجهورة والمائعة والانفجارية (اللام ، الباء ، الميم ، الياء...) المتناغمة مع حركة الذات في فخرها وحكمتها، وحتى غزلها المنضبط لداعي الجد والوقار، وتكرار صائت الضمة لما له من دلالة على القوة والبأس واجتماع الأمر وتحكم رقابة الوعي وسلطة العقل، وتكرار ألفاظ وصيغ بعينها وضروب من المجانسة لشحن النص بالاهتزازات النغمية التي يتطلبها الموقف الشعوري، وكالتوازي الواضح في تناظر الوحدات المعجمية والمتواليات التركيبية والتوليفات الدلالية بين شطري كل بيت على مستوى أفقي، أو حتى بين بيتين أو أكثر على مستوى التوازي العمودي بما يختزنه من ترادف أو تضاد أو مطابقة تركيبية أو مخالفة (زرق حوافره ، سود نواظره ، خضر جحافله، في خلقه ميل \ رد الصبا، راح بالجد ما يأتي به الهزل \ إن دعوت بهم لبوا وإن أنزل بهم نزلوا \ أحياء ، قتلوا \ راح ما كان من صبر إلى جزع \ الريث يحمد ، يستحسن العجل ...). 

والملفت للنظر أن الإيقاع الداخلي يتجاوز موسيقى الإطار ويتساوق مع وظيفة الزحافات والعلل في تطويع موسيقى البحر وتكييفها لما تقتضيه الحالة النفسية للشاعر التي بدت متقلبة متحولة من ضعف واستسلام للقدر إلى اندفاع وبطش في ساحة المعركة، إلى رزانة وحكمة في النهاية، وهو ما قيل إنه يضعف الوحدة العضوية في القصيدة ويفتتها، خاصة في ظل القصيدة العمودية حيث يهيمن البيت المقفل المستقل، ولكننا نعتقد أن في الأمر مبالغة من المحدثين. 

- يتشكل معجم النص تبعا لتشكلات المضمون من ثلاثة حقول دلالية أساسية:

  + حقل ذاتي عاطفي: (الغزل، الهزل، شيب اللمة، الصبا، الصبر، الجزع، الحب، المحبة، نازعتني، باطلها...)، ويدل على تحسر الشاعر على انصرام زمن اللهو والمتع بعد حلول الشيب والوقار، وهو معنى تداوله الشعراء قديما كالكميت، ويصور الشاعر في صراع بين الرغبة في التغزل والتزام الجد وكمال الرجولة ليحسم الأمر في النهاية لصالح الاتزان أسوة بالأقدمين الذين سنوا هذه السنة في سلوك الغرام ولم يسوغوا للكهول الاشتغال بالتصابي.

  + حقل الفروسية والصيد: (أشقر، الباترات، البيض، قوائمه، حوافره، نواظره، الهول، مقداما، ماضي الغرار، الوهل، الهام، الضراب، فتكته، أحياء، قتلوا، يفل الحديد...) (هطلاء، السوام، الصيد، الرفاق، اللذة...)، ويكشف من جهة عن صورة الشاعر الذي لا يهاب الموت الممتطي لفرس لا يكل والحامل لسيف لا يفل، مستعيدا الصورة المثالية للفارس البطل كما نجدها عند عنترة وامرئ القيس، ويعبر من جهة ثانية عن حرص الشاعر على الالتزام ما تواضع عليه القدماء من خلال وصفه للسيف والفرس دون غيرهما من أدوات الحرب الحديثة (البندقية والمدفع) التي خاض بها معاركه. وكذلك الأمر في الصيد ديدن الفرسان حين يفرغون من القتال فيقصدون الفيافي يطاردون الوحش وينصبون الشواء ويأكلون ويشربون ويترنمون بالشعر وينادمون الرفقاء.

  + حقل الحكمة: (العيش، لغو الحديث، الإفكة، اتبع، هواك، دع، الريث، العجل، الهمل، النمل، الأدب، الأخلاق ...) ويكشف هذا الحقل عن نزعة تعليمية أخلاقية تؤطر خطاب البعث والإحياء عامة، وشعر البارودي خاصة. 


وقد توسل الشاعر بالمعجم القديم في عرض تجربته بتوظيف مواد معجمية ذات حمولة ثقافية تراثية مثل: الفتى، الكلل، الباترات، البيض، حجوله، أعطافه، ماضي الغرار، الوهل، الهمل، النمل، السوام ـ الضراب...، وهذا ما جعل المعركة التي يصفها الشاعر معركة قديمة مستوحاة من المتخيل المخزون، وجعل الوجدان الذي يتألق داخله محاصرا بتداعيات الذاكرة، والحكمة المبثوثة في آخر النص تعكس القيم المثالية النبيلة الموروثة عن عالم الفرسان المغرق في النبل والقوة والاستمتاع بالحياة والاستهزاء بالموت.


- تستمد الصورة الشعرية مكوناتها من العالم المحسوس، وتميل إلى تجسيد ما هو معنوي، وتعتمد الآليات البيانية القديمة من تشبيه واستعارة ومجاز وكناية. وتقوم على علاقة المشابهة الملازمة لطبائع الأشياء، أو علاقة المجاورة المفترض أن تربط بين هذه الأشياء. فإذا أخذنا مثلا الصورة في البيت الثالث من حيث مكوناتها فهي مستمدة من عالم مجرد منولة إلى محسوس، فالقضاء والأزل (القدر) مجردان، وبما أن الأزل خاط فهو مجسد، وبما أن القضاء مخطوط فهو مقروء، هكذا نرى تجسيدا لما هو معنوي على غرار الصورة في القصيدة العباسية والجاهلية على طول الممتد النصي، حيث يغيب المشبه به الإنسان ويكنى عنه ببعض لوازمه كالرد والرواح والخط والمرور والصحبة وغيرها مما يجعل الجوامد والمجردات تلبس لباس الإنسان وشعوره، وهذه العلاقة نجدها أيضا في الجمع بين المحسوس والمحسوس في التشبيه كتشبيه السيف بالشعلة، والجمع في الاستعارة بين البريق والاشتعال. كما أنه وظف علاقة المجاورة في تكنيته عن السيف بمستلزم (ماضي الغرار) وهي كناية عن موصوف، وفي إطلاق الحال (الغمامة = الشتاء) وإرادة المحل، محل الصيد حيث يكتهل العشب وينمو السوام على سبيل المجاز المرسل. 

  أما من حيث  وظيفة الصورة ومساحتها فتنحصر في البيت الواحد لا تتخطاه، وتفتقر إلى الناظم الخيالي والعاطفي المتناسل على امتداد الجسد النصي الملتبس بالبؤر الدلالية والانفعالية، وهذا يعني أن الشاعر يتخذ من البيت المقفل عروضيا ودلاليا أداة للتعبير مما يحصر وظيفة الصورة في البعد البياني والتجميلي دون الوظيفة التعبيرية أسوة بالخيال الشعري القديم المصر على الإبقاء على المسافة النفسية الفاصلة بين الشاعر وموضوعه، الملح على تشكيل صور أجزاؤها كامنة في الذاكرة، وما على الشاعر إلا أن يعيد تنسيقها ويضيف إليها جزيئات أخرى لا تخرج في طبيعتها وفلسفتها عن النزعة البيانية التبليغية.


- تهيمن في النص الجمل الفعلية، وتتوزع من حيث زمن الفعل إلى ثلاث صيغ: الماضي (رد، راح، سلفت، أطلعتني، نازعتني...) وتحيل على امتداد في الزمن واتصال في الحركة والسلوك، والمضارع (يمر، يفل، تنتقل، تعتدل، تهفو...) وهي صيغ خالية من الزمن لإبراز إمكان تحقق الفعل في أي وقت، وهي مطردة في الوصف لتثبيت السمات المميزة للموصوف تماما كالجمل الإسمية الواصفة، وصيغ الأمر (اتبع، دع، اعرف، ارض) وتحيل على الاستقبال باعتبارها أفعالا مطلوبا إنجازها على وجه النصح والإرشاد. ويخلق الزمن النحوي في النص حالة من التعالي المدعوم بالاستمرارية لرسم صورة مثالية عن الشاعر تضاهي المزايا النموذجية التي اتصف بها الشعراء الفرسان القدامى. وتهيمن على النص أيضا الجمل الخبرية، والخبر فيها ابتدائي يتصور المتلقي فيها جاهلا بما تتلفظ به الذات المخبرة ومستعدا لقبول الخبر وتصديقه، ولذلك جاء الخبر خاليا من أدوات التوكيد وقرائنه. أما الضمير الأكثر انتشارا في النص فهو المتكلم المفرد في المفصل الدلالي الأول والثاني لكون التجربة العاطفية المعبر عنها ذاتية تخص الذات المفردة المتفردة المفتخرة بإقدامها وقوتها وبراعتها في الفروسية أو اتزانها وتماسكها أمام نزعات النفس وشهواتها، رغم كونها تجربة مستنسخة. لكن ضمير المفرد يختفي في المفصل الثالث ليحل محله ضمير الجماعة المتكلمة للدلالة على الفاعلية الاجتماعية للشاعر (الألفة، الانسجام مع الرفقاء)، وهو الوجه الآخر للفخر حيث الشاعر باطش بالأعداء رفيق بالأصدقاء، ويتسلل إلى المفصل الأخير ضمير المخاطب ليفتح النص أفقا رحيبا للتواصل مع المتلقي العام فيستقبل حكمة الشاعر البليغة الناجمة عن خبرة ناضجة بالحياة تخضع كل موقف فيها للسلوك الصحيح النبيل والاستمتاع الراقي الشريف.


تركيب وتقويم

 من خلال تكرار نفس المضامين الشعرية القديمة واعتماد الإطار الموسيقي التقليدي، وعبر التوسل بمعجم القدماء وتراكيبهم وطرق تصويرهم نستطيع القول إن هذا النص يجسد بوفاء تام كل خصائص شعر البعث والإحياء بما هو استعادة لإشراقات النموذج القديم وقدرة فائقة على محاكاته. ورغم أن النص بنية مفككة الأجزاء لا رابط بينها سوى الرابط العروضي وذات الشاعر مفردة أو متقنعة بذات الجماعة، ويزيد من تشققها تعبير الشاعر عن تجربة ذاتية بقوالب قديمة وتمثلات مخزنة في الذاكرة، إلا أن ثمة خيط دلالي رفيع يشد هذه الأجزاء هو انصهار وحدات النص في نقل تجربة شاعر فذ. 




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-