تحضير نص المنهج البنيوي - صلاح فضل

تحضير نص المنهج البنيوي - صلاح فضل


تحضير نص المنهج البنيوي - صلاح فضل

درس النصوص                                      المجزوءة الرابعة : مناهج نقدية حديثة    

 ـ المنهج البنيوي                              

                             نص نظري: المنهج البنيوي - صلاح فضل


تأطير النصّ : 

 تمردت التيارات البنيوية العربية على المناهج التفسيرية (التاريخية والنفسية..)، وانطلقت من تصور جديد لقراءة النص الأدبي معتمدة أطرا مرجعية ومفاهيم ومصطلحات خاصة، متأثرة بمناهج النقد الغربية، فأصبح النص الأدبي ذاته موضع بحث علمي، وأقصي ما دعته البنيوية بخارج النص. وتعود نشأة المنهج البنيوي إلى منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، مع دوسوسير الذي أسس قطيعة مع المقاربات التقليدية للغة. والشكلانيين الروس الذين أسسوا مقولة البحث عن أدبية النص. و"حلقة براغ" ونظرية التواصل. واكتمل تبلور هذا المنهج مع البنيويين الكبار، كرومان ياكوبسون وكلود ليفي ستراوس وجيرار جنيت وغريماس.

   والبنيوية منهج وصفي تحليلي في قراءة النص الأدبي يهتم بالعالم الداخلي للنص الأدبي في بنياته اللغوية والفنية والرمزية، ويعتبر النص الأدبي متوالية من الجمل، يجب أن تدرس صوتيا ومعجميا وصرفيا وتركيبيا أو نصيا، ويبحث عن العلاقات والقوانين الباطنية التي تحكمه، فالنص بنية مغلقة على ذاتها يجب أن تدرس من داخلها. 

  اهتم بالمنهج البنيوي في العالم العربي نقاد مثل: عبد السلام المسدي، وجمال الدين بن الشيخ، وعبد الفتاح كليطو، وعبد الكبير الخطيبي، ومحمد بنيس، ومحمد مفتاح، وصلاح فضل المولود سنة 1938 بكفر الشيخ بمصر، مجاز في الأدب عام  1962، حاصل على دكتوراه الدولة من جامعة مدريد سنة 1971، أستاذ جامعي، ومستشار ثقافي لمصر بإسبانيا، وعميد للمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون، فاز بالعديد من الجوائز التقديرية المصرية والعربية، ألف في النقد الأدبي ونظرية الأدب والنقد التطبيقي والترجمة، خلف عدة آثار منها (بلاغة الخطاب وعلم النص)، (تحولات الشعرية العربية)، (مناهج النقد المعاصر) الذي أُخذ منه النص موضوع درسنا. 

 عنوان النص "المنهج البنيوي" مركب اسمي يتكون من مصطلحين: "المنهج " وهو عملية نقدية منتظمة، تستند إلى إطار نظري لقراءة النص وفق مبادئ مضبوطة، و"البنيوي"، وهو نعت يُضمر مفهوم "البنية"، اقترن بياء النسبة للدلالة على صفة تخصيصية للمنهج أمام تعدد المناهج النقدية في دراسة الأعمال الأدبية. و"المنهج البنيوي" منهج نقدي يتعامل مع النص كبنية لها قوانينها ومبادئها المنظمة لعناصرها كنسق كلي، تستقل دلالته عن الخارج. 

   "النظرية البنيوية"، "البنية الدلالية للقصيدة"، "الواقع هو النص الأدبي ذاته" كلها مُشيرات نصية يجمع بينها كونها تنتمي إلى المقاربة البنيوية للنصوص الأدبية، باعتبارها تبحث في المبادئ المنظمة للدلالة في النص، وهي مقاربة تستند إلى إطار نظري بنيوي تستمد منه المفاهيم والأدوات الإجرائية لقراءة النصوص.

ـ من خلال الملاحظات السابقة نفترض أن النص يستعرض المنهج البنيوي: أسسه وخصائصه وأهميته، وإمكاناته ومميزاته مقارنة بغيره من المناهج التفسيرية.

 فما القضية المطروحة في النص؟ وما المفاهيم المؤطرة لها؟  وما مرجعية الكاتب فيها؟ وما طرائق عرضه للقضية؟ وما مقصديته من طرحها؟


الفهم

يتمفصل النص إلى عدد من المفاصل الفكرية نجملها في الآتي:

- إرهاصات المنهج البنيوي (في مستهل القرن العشرين) في حقل الدراسات اللغوية باعتباره طليعة الفكر البنيوي.

ـ تحديد البنيويون مجال عملهم في موضوع الأدب الذي يحيا فيه المبدع، فموضوع النقد هو الأدب وليس مرجعه الخارجي بأبعاده الاجتماعية والسياسية والتاريخية. ورفضهم القراءة الإيديولوجية للأدب، التي تُعيق الوقوف على كيفية اشتغال النص الأدبي لاحتكامها إلى معايير مسبقة تحجب إدراك كيفية أداء الأدب لوظائفه التعبيرية والجمالية.

ـ استناد المنهج البنيوي إلى أسس نظرية تمثل تيارات العلم الحديث، منها: 

أ ـ الفلسفة الظاهراتية: تقصي الجانب الميتافيزيقي الغيبي في دراسة الأشياء، وتركز على ما يتجلى للإدراك في لحظة معينة. 

ب ـ علم اللغة: مصدر أهم مصطلحات المنهج البنيوي ومفاهيمه، ومنها مصطلح البنية الذي نشأ في علم اللغة موازيا في علم النفس لفكرة (الجشطالت أو الإدراك الكلي)، وفي الأنثروبولوجيا (إدراك نظم العلاقات في المجتمعات البدائية).

ـ تبلور مفهوم البنية في عدة قضايا، تخص مجال النقد، يمكن ترتيبها كالتالي: 

+ الأعمال الأدبية بنية كُلية باعتبار ارتباط دلالتها بهذا الطابع الكلي لها، (فالبنية الدلالية للقصيدة مثلا، ليست هي حصيلة أجزائها، بل تُبنى من مستويات تخترق هذه الأجزاء، وتتغلغل فيها وتشتبك معها، إنها مُحصلة مجموعة من البنيات [كالبنية الإيقاعية، والتركيبية، والتعبيرية، والتخييلية التي تصل إلى ذروتها في المستوى الرمزي الكلي]).

+ استهداف البنيوية الوصول إلى فهم المستويات المتعددة للأعمال الأدبية ودراسة علائقها وتراتبها والعناصر المهيمنة على غيرها وكيفية تولُّدها، ثم كيفية أدائها لوظائفها الجمالية والشعرية، مما جعل البنيويين يُطلقون شعار "موت المؤلف" إشارة إلى وضع حد للتيارات النفسية والاجتماعية.

+ رفض أحكام القيمة الخارجية وإحلال حكم الدلالة والوظيفة والقيمة للمكون النصي: أي ما ينبثق منه وما يتجلى فيه من قدرة وإنجاز.

ـ أهمية المنهج البنيوي، ومقارنته بغيره في الغرب والعالم العربي تتجلى في اكتساح المصطلحات البنيوية، منذ السبعينيات من القرن العشرين، بقية الحقول المعرفية (الماركسية ـ الوجودية ...) لتطوير الحقل المفاهيمي والمعرفي للفكر النقدي الغربي، وتشكيل الإطار العام لمبادئ تلك الحقول المعرفية، وتدارك نقائصها. 

ـ البنيوية في العالم العربي مُنطلق لتحديث الخطاب النقدي وتجديد أدواته.


التحليل 


   بتحليل إشكالية النص نجدها تتعلق بخصائص المنهج البنيوي وأسسه النظرية في قراءته الوصفية التحليلية للنص الأدبي. فهو منهج ينظر إلى موضوع النص من خلال الواقع الكامن فيه، والمُتوصل إليه من زاوية مستوياته المتعددة التي تخترق أجزاءه، ودراسة علائقها وتراتبها والعناصر المهيمنة، وكشف دلالته المرتبطة بطابعه الكلي، المحددة بالقوانين المنظمة لنسقه الكلي، وكيفية تولدها وأدائها لوظائفها الجمالية والشعرية. فلا أحكام للقيمة، وليس إلا حكم الواقع، واقع النص. 

  ويحكم هذه الإشكالية معجم من حقلين: حقل النقد التفسيري (خارج النص): [علاقة الأدب بالحياة ـ إيديولوجيات ـ نظريات مرتبطة بجوانب سياسية أو اجتماعية أو تاريخية ـ منطق إيديولوجي ـ معايير مُسبقة ـ حقيقة جوهرية فلسفية ـ نظرية في الحياة ـ المستويات الخارجية ـ الميثولوجيا القديمة ـ الماركسيين والوجوديين - تنتمي إلى المنهج الاجتماعي ـ النفسي ...].

وحقل النقد الوصفي (داخل النص): [ميتا لغوي ـ لغة النقد تسبح فوق لغة النص ـ النقد الأدبي - علم للأدب ـ الوظائف التعبيرية والجمالية ـ الرموز المتماسكة في الأعمال الأدبية ـ نظرية في ظواهر الإبداع الأدبي ـ الظاهراتية ـ نقد الأدب نوع من العلم الإنساني ـ علم اللغة - الغطاء النظري للبنيوية ـ البنية ـ الجشطالت ـ علم اللغة ـ الأعمال الأدبية تمثل أبنية كلية ـ البُنى الجزئية ـ البنية الدلالية  للقصيدة ـ مستويات الأعمال الأدبية ـ دراسة العلائق وتراتبها ـ العناصر المهيمنة على غيرها ـ كيفية تولدها ـ الوظائف الجمالية والشعرية ـ موت المؤلف ـ حكم الواقع ـ النص ذاته - رفض أحكام القيمة الخارجية- ما ينبثق من النص...]. 


وقد تحكمت في بناء المعجم علاقة تعارض بين التصور الخارجية التي يؤمن بمفهوم المرآوية والانعكاس، وإن كان الاختلاف في المحيل عليه (الفرد أو الجماعة أو المحيط)، والدراسة الداخلية للنص التي تنطلق من كون النص الأدبي لا يعكس إلا ذاته. وهيمنت المصطلحات المتعلقة بالمنهج البنيوي لحرص الكاتب على تقديم التصور الجديد لنقد النص وتأصيله وإبراز أهم مفاهيمه وبيان أهميته ومميزاته مقارنة مع غيره. وقد اُستمدت المفاهيم من حقول علمية عديدة كاللسانيات التي كانت منطلق كثير من المقاربات (الشكلانية، الأسلوبية، الشعرية، السيميائيات..) يجمعها قاسم مشترك، اصطلح على تسميته بالقراءة البنيوية، ومن التاريخ والاجتماع، ولعبت هذه المفاهيم دورا هاما في إضاءة القضية المطروحة في النص.


   وقد تفرعت عن هذه الإشكالية بعض القضايا النقدية يسعى الكاتب من ورائها إلى إضاءة قضية النص، ومنها:

  ـ مفهوم البنية نظريا ووظيفيا: حيث يُنظر إلى العناصر باعتبارها مكونات ضمن نسق كلي يعد تركيبا للنص، تنتظم فيه المعطيات اللسانية لبناء النسق الدلالي العام. والعناصر ليست أجزاء مستقلة متجاورة، بل مترابطة بعلاقات متكاملة، تتفاعل فيما بينها وظيفيا، تتسق ضمن الوحدة الكلية للنص، حتى أن كل تغيير في العنصر يترك أثره على البنية كلها. ودراسة هذه البنية في ذاتها عبر التوصيف هو ما يمكن من الوقوف على جمالية النص أو أدبيته.

ـ مقولة موت المؤلف : شعار أطلقه رولان بارث إشارة إلى وضع حد للتيارات النفسية والاجتماعية. 

ـ اعتبار عالم النص الأدبي عالما داخليا مُغلقا في بنياته اللغوية والفنية والرمزية: جمالية النص الأدبي مكمنها قدرة العناصر المختلفة على نسج علاقات اتساق بينها وتوليدها نسقا متميزا ينهض بالبنية ويصل بها إلى نمذجة النسق، وإلى وضع صاف شفاف رغم الإيهام بالعفوية أو انعدام النظام.

  وقد أطرت هذه التصورات أطر مرجعية منها: 

اللسانيات البنيوية التي تدرس اللغة باعتبارها نسقا تواصليا عناصره الأساسية الصوت والمعجم والصرف والتركيب والدلالة. وحركة الشكلانيين الروس التي أطلقت مقولة البحث عن أدبية النص، في العناصر النصية والعلاقات المتبادلة بينها والوظيفة التي تؤديها في مجمل النص، وتعاملت مع الشعر الرمزي، ووقفت على جماليته انطلاقا من شكل المضمون، وجسدت في أبحاثها المرحلة الأولى للمنهج البنيوي قبل تطوره. وحلقة "براغ" : خاصة رومان ياكبسون في "قضايا اللغة الشعرية". والفلسفة الظاهراتية  مع "إدموند هوسرل"، المؤمنة بالعلم، أي بالجوانب التي تدرك، وبالكيفية التي يُنجز بها العمل. والفلسفة الوضعية التي سارت في اتجاه الموضوعية والاستقصاء العلمي التجريبي. 


   وانسجاما مع طبيعة هذا الخطاب شيد الكاتب نظامه التفسيري متوسلا بأساليب تفسير متعددة، منها: التعريف : "كان الغطاء النظري للبنيوية هو علم اللغة"، والمقارنة بين المبدع والناقد "المبدع يرى العالم ويكتب عنه، لكن الناقد ليس له علاقة مباشرة بهذا العالم"، وبين المنهج البنيوي والمنهج الاجتماعي والنفسي، وبين لغة الأدب ولغة النقد، والتمثيل : "فالقصيدة لا تصبح مجرد مجموعة من الأبيات بل تبنى من مستويات تخترق هذه الأجزاء.." ، والسرد "كان قد نشأ في الأنتروبولوجيا.....ونشأ في علم اللغة..... وأصبح.... في النقد الأدبي"، ويتجلى دور هذه الأساليب في الإقناع بجدوى المنهج البنيوي من خلال التعريف به، وتحديد ماهيته، وجرد خصائصه، وبيان أسسه بأسلوب استدلالي يجعل أطروحة الكاتب مُقنعة متماسك بناؤها، متسقة لغتها. 

وارتسم توصيف الكاتب على محورين: تزامني يعرف بالمنهج البنيوي ويحدد ماهيته ويجرد خصائصه ويصف مرجعياته النظرية ويقارنه بغيره، وتعاقبي يتتبع المسار التاريخي لتطور النظرية البنيوية، بدءا من الإرهاصات الأولى في حضن الدراسات اللغوية، وصولا إلى مرحلة التبلور بعد تطوير العدة المفاهيمية وتحويلاتها الإجرائية في العلاقة بين النظرية والممارسة النقدية. 

    وتحقيقا للإقناع توسل الكاتب بأنواع من الحجج منها ما هو برهاني يفيد اليقين كقوله: "لأن هذا الحقل (الدراسات اللغوية) كان يمثل طليعة الفكر البنيوي"، ومنها جدلي يقارب اليقين ويلزم المخاطب كقوله: "فإذا كان موضوع الأدب هو العالم فإن موضوع النقد هو الأدب وبذلك لم يعد النقد مجالا لبروز إيديولوجيات"، ومنها خطابي يفيد الظن الراجح مثل "النقاد يعميهم كثيرا أن يقعوا في هذه الإيديولوجيات نفسها لأنهم حينئذ سوف يحتكمون في قراءة الأدب إلى معايير مسبقة في أذهانهم فلا يستطيعون رؤيته على حقيقته".

 

  على مستوى اللغة والأسلوب اعتمد الكاتب لغة نقدية يغلب عليها الطابع التقريري المقترن بأدوات التوكيد؛ لهذا جاء الخطاب متسقا بفعل مجموع الوسائل اللغوية والشكلية، الظاهرة والخفية، منها استخدام أشكال من الربط كالربط البياني المثنوي القريب: "يرى العالم ويكتب عنه" والربط البياني الجمعي القريب: تحاول أن تقبض عليها وتمسك بها وتحلل علاقاتها" والبعيد: "لم ينبثق المنهج البنيوي...... وإنما كانت له إرهاصات.... اختمرت عبر النصف الأول من القرن العشرين...... لعل من أولها ما نشأ....... في حقل الدراسات اللغوية" والإحالة النصية القبلية عن طريق الضمائر: "كانت له" وأسماء الموصول : "فلسفة الظاهراتية التي تتميز" وأسماء الإشارة : "هذه" التي تشير إلى الفلسفة التي سبق ذكرها. وتحقق اتساق الفقرات عبر التكرار اللفظي مثل: "البنيوية والبنية" والجمالية والشرح والتوضيح "معنى هذا أن نظرية الأدب" "في مقدمة هذه المصطلحات"، والأسلوب الخبري المؤكد (وقد حاول - إن أهم - إن دراسة)، وصيغ الوجوب (-على أن ذلك يقتضي- ولابد..)، إضافة إلى صيغ الشرط (إذا كان مصطلح...فإنه ينبغي...). وغايته من ذلك إلزام المتلقي بصحة الأطروحة المعبر عنها. وإقناعه بجدوى المنهج البنيوي وقيمته العلمية في دراسة النصوص الأدبية. 


التركيب والتقويم

         نخلص من تحليلنا إلى أن الكاتب قصد إلى التعريف بالمنهج البنيوي من خلال تحديد ماهيته وخصائصه وأسسه، فبين أن الدراسات اللسانية مثلت طليعة الفكر البنيوي، إذ حدد البنيويون مجال عملهم، وشكل هذا التحديد منطلقا لتحقيق علمية الأدب وتخليصه من الخلفيات الإديولوجية التي تعيق الوقوف على كيفية اشتغال النص الأدبي وتحقيقه للوظائف التعبيرية والجمالية. وبذلك تتأكد لنا صحة فرضية توقعناها في بداية قراءتنا المنهجية.

وتأسيسا على ذلك يمكن القول إن البنيوية بوصفها منهجا نقديا حديثا له ملامحه الواضحة والمتكاملة قد حاورت مناهج سابقة أو معاصرة، وشكلت أداة تحليلية في مجموعة من العلوم كاللسانيات والأنثروبولوجيا وعلم النفس، لكنها ظلت أداة التحليل والمقاربة ولم تتحول إلى علم أو نظرية. ومع ذلك تعرضت للهجوم من النقد الإيديولوجي التفسيري (النفسي والاجتماعي..)، ومن أصحاب نظرية التلقي.




حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-