ملنكوليا | خواطر الفجر (2)




 ملنكوليا | خواطر الفجر (2)


خواطر الفجر




صحبة جديدة، تؤكد لي أن العلاقات الاجتماعية ليست بذلك السوء، منذ اللحظة التي ولجت فيها مقهى شعبيا شبه سري في القرية، صدفة، بحثا عن عشبة الكيف، قبل سنة.


هناك أشخاص بدائيون لدرجة النقاء، على شاكلة زوربا أو أحصنة السهول البرية، يفكرون في المعيش اليومي فقط وهم يلوكون الأخبار عن النهود والمؤخرات ويدخنون الغليون أو الحشيش مع كؤوس الشاي المنعنع، ويلعبون الورق، ونادرا ما يعلقون بسخط على السياسة، فهم لا يتبنون موقفا سياسيا، لأن الجميع "أبناء قحبة" بالنسبة ل"الشرقي" بما فيهم الفقراء، يفضلون مناقشة كرة القدم والنساء وأحوال "العشبة" وقصص الجن والخيانات الزوجية وتاريخ المنطقة...

كان اكتشافا من نوع آخر، كنت محتاجا إليه لأتجاوز ادعاءاتي الذاتية عن استحالة العلاقات البشرية، مستمدا صورة "الحرب الدائمة" بين البشر من وسط فكري آخر، لم يعش صاحبه بين الناس الذين "لا يفكرون" بل يحاربون يوميا للعيش دون أن يتساءلوا "لماذا".

حارس السيارات الليلي الذي يمر على المقهى كل ساعة، يبيعنا السجائر، بعض الحرفيين والعمال المياومين الذين لا يعرفون شيئا عن الادعاءات "عالية التجريد"، يحبون الله والخبز والدخان والنساء بلا جدوى، معظمهم لديه أبناء، وبعضهم وصل حكمة العزوبية دون حاجة للكتب.


كنت أفكر في ادعاءات أفلاطون وأبي حيان التوحيدي عن "صداقة" مثالية، ترتكز على أخلاقيات عالية الالتزام، تستمد نفسها من وعي فلسفي دقيق، لكن يبدو أن الأمر لا يحتاج تلك الكمية من التفسير، قد تنشأ صداقات جانبية، اعتباطية دون تفكير، هكذا دون دواع ولا انتماءات متقاربة في الواقع والفكر، فقط في الروح، تبدأ بحوارات متدفقة عن ما يمكن أن يشكل إلهاء مثل النساء أو الحشيش أو الكرة.


لم أتحرر من مرض الادعاء كليا بعد، لكن رفض العلاقات الاجتماعية مسألة مبالغ فيها، فالتجربة، تبين أن البشر ليسوا جميعا على خط واحد من العمق، لأن الجلوس والمشي والمشاركة مع هؤلاء الذين أفسدتهم الادعاءات الثقافية والطبقية والموضة والحياة المعاصرة، سواء كانوا ظرفاء وظريفات أو العكس، صعب: لأن لديهم انتظارات ومعايير وزجاجات منظار ثابت ينظرون من خلالها إلى كل شيء فيقيمونه، ثم مشارط عقلية تحاول تشريحك وإعادة خياطتك من جديد لتناسب حجم تلك المناظير، بيد أن هؤلاء البوهيميين، لا ينتظرون منك إلا أن تتقاسم معهم خبرا شيقا أو رزمة الكيف المقصص بعناية، لا ينظرون إلى الربح والخسارة في العلاقات ولا إلى موقعهم منها، ولا يطلبون منك تصنيفات أو بدل جهد شعوري مثلما تفعل النساء والأصدقاء "المثقفون"، تبدو تلك الانسيابية في عيش اليومي، الوجود-هنا، مدهشة بالنسبة لي، بالرغم من أن معظمهم يعاني من مشاكل من نوع آخر، لكنهم يستمرون في المقاومة كالبكتيريا. لا تحتاج البكتيريا إلى إيديولوجية لتعيش، وتستمر.. تقيم علاقات عشوائية على أساس تمضية الزمن المقدر لها لتعيشه، مثل هذه الأسيقة نادر الحدوث، تنطوي على فهم قبل-ثقاقي للعلاقات البشرية، بعيدا عن الأحكام، التي ينسونها بسرعة، ويغيرونها بسرعة أكبر، أو عن الانتظارات والقوالب الجاهزة، وتلك هي حكمتهم في العلاقات الاجتماعية، ينسون بسرعة، وكل ينظر إلى ذاته فقط، دون اعتماد على الآخر في المشاعر، لو تنقل هذه البساطة المعقدة إلى الحب والأسرة والعمل و"صداقات الفكر والصدفة" سيتكون نسيج جديد، أقل دفئا، لكنه جيد وغير متكلف.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-