ملنكوليا | خواطر الفجر (1)




 ملنكوليا | خواطر الفجر (1)

ملنكوليا | خواطر الفجر (1)





مشاعري لم تعد مهمة بالنسبة لي، كما لا تهم عواطف أي إنسان في العالم، حيث إن القوانين الطبيعية والفوضى والصدف تستمر في العمل بانتظام أو عشوائيا، ولا يهم في ذلك إسقاطات العقل والانفعالات التي تحدث داخلنا حول الأشياء والأحداث والأشخاص. أعتقد أن هناك شعورا غامرا - يا للمفارقة - يجتاحني حين لم أعد أولي اهتماماً لما يجب أن أشعر به، لابدّ أن لائحة "ما يجب" أن نشعر به تثقل كاهل الإنسان طوال حياته، تلك التدفقات الاعتباطية للأفكار والأمنيات والمشاعر لذيذة، لكنها لا تغير شيئاً إلاّ في حدود ما يقع داخل النفس، هكذا فيمكن تجاوز تضخيمها، أرتاح دائما للغابة التي قرب المنزل، للأطفال، للموسيقى، للمشي مساء، للأرق، لأغاني دينية قديمة وترانيم تحمل تاريخا من البشرية، لكن ذلك ليس حاسما في شيء لا للكون ولا لي ولا للناس، عذابات الحقد والحب والكراهية والظلم والشك وفقدان الإيمان، لا تختلف في شيء عن مشاعر الود والإيمان والاستمتاع بخيوط الشمس صباحا على السطح، مذاق الشاي الدافئ على اللسان حين يمتزج بحلاوة المربى والزيتون المر، لسعة دخان الكيف أو السجائر بعد ذلك، فاجعة موت أخي، الرعب الذي تملكني بعد قتل القط، مذاق نهد صديقتي، المشاعر كلها سديم واحد في كل مراحل العمر، هناك خطأ ما في الرغبة المحمومة لجعلها معيار كل شيء، استدامة أي شعور وهم مضر، يخرب تجربة الحياة، لأننا - لا داعي للتهكم - نوجد كي نجرب المشاعر، لا كي نكون مشتلا وحقل تجارب لها، نشكلها بعد أن نستنفذ قوتها القاهرة، لا أن نسمح لها بأن تشكلنا.


في هذا الوقت، وبعد هذا الفراغ الفاغر داخلي وحولي، ساعدني التعب النفسي في تكوين زاوية جديدة للنظر إلى الأشياء التي تحيط بي، والتي أستطيع تجربتها، حكمتي الخاصة، أن أنفعل مع كل شيء، دون أن يكون ذلك معيارا للحكم على الأشياء، ألا أرغب في استدامة أي شعور، كي لا أمر بجانب الوادي دون أن أسبح فيه. خلاص فكر فيه البوذيون، لكن من زاوية سلبية، إذ لا فائدة ولا معنى لتعطيل المشاعر جملة، يكفي تحييدها بعد عيشها، ألا نحرم أنفسنا من شعور اللذة والألم، دون أن يصيرا قالبا نهائيا لكل تجربتنا، لكن لذلك ثمن قطعا، وهو صعوبة تقاسم التجارب مع الآخرين.

إن رآك شخص لا تبكي بعد وفاة جدتك سيحاكمك قطعا، سيقول إنك متخشب، رغم حبك غير المشروط لكل تجاعيدها، وخبز الشعير الذي كانت تطبخ، توجد المشاعر داخلك، لكنك لا تضخمها، لا تمنحها أكثر من مكانها في لوحة الحياة، يبدو قاسيا ذلك الإنسان الذي لم يعد محبا للتهويل، أقول مطيعا الخط المنساب لهذا الفكر - مع شك في التزامه - أنني أمانع الإصابة بسرطان المخ، لأن هناك صوتا داخليا، حيوانا شرسا داخلي يريد أن يحيا لآخر ثانية، لكن إن حصل الأمر لن أخبر أحدا إلا حين يحين الوداع، دون أسف، فعل أحد الممثلين ذلك في السنة الماضية، كان فعلا حكيما.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-