مقتطفات روائية : مقتطف من رواية "أيام هادئة في كليشي"، هنري ميللر

 

مقتطفات روائية : مقتطف من رواية "أيام هادئة في كليشي"، هنري ميللر


مقتطفات روائية : مقتطف من رواية "أيام هادئة في كليشي"، هنري ميللر


كنت لا أزال أكتب عندما بدأ الظلام يخيّم على المكان، وبدأ الناس يتوجهون لتناول العشاء. كان يوماً رمادياً، مثل الأيام التي يراها المرء غالباً في باريس. رحت أتمشى في الشارع لكي أنعش أفكاري، ولم أجد مناصاً من التفكير بالتناقض الهائل بين المدينتين (نيويورك وباريس). كان الوقت ذاته، واليوم يشبه هذا اليوم، لكن مع ذلك، لم تكن كلمة "رمادي" التي كانت السبب في توارد الأفكار هذا، تشبه كثيراً كلمة gris، التي يمكن أن تستدعي عالماً من الأفكار والمشاعر عندما يسمعها أي رجل فرنسي. ففي أحد الأيام، وبينما كنت أجوب شوارع باريس، أمعن النظر في اللوحات المرسومة بالألوان المائية المعروضة في واجهات المحلات، أدركت أن الشيء الوحيد الذي تفتقده هذه اللوحات هو اللون الذي يُعرف باللون الرمادي الداكن. إني أذكر ذلك جيداً لأن باريس، كما يعرف الجميع، مدينة رمادية إلى حد بعيد. إني أذكر ذلك لأنه، في عالم الألوان المائية، يستخدم الرسامون الأمريكيون هذا اللون الرمادي بإفراط شديد. أما هنا في فرنسا، فمن الواضح أن تدرجات اللون الرمادي لا نهاية لها. إن تأثير اللون الرمادي بحد ذاته هنا معدوم.


كنت أفكّر بعالم اللون الرمادي الهائل الذي عرفته في باريس، لأنني عندما أتجول عادة في هذه الساعة باتجاه الجادات العريضة، سرعان ما أجد نفسي أتوق لأن أعود إلى البيت وأكتب: وهو أمر مناقض لعاداتي الطبيعية تماماً. عندما ينتهي يومي هناك، أنطلق بشكل غريزي لأختلط بجموع الناس. أما هنا، فإن جموع الناس تخلو من جميع الألوان، من جميع ظلال الألوان وطبقاتها، وتدفعني دفعاً لكي أنكفئ على نفسي، وترجعني إلى غرفتي لأبحث في مخيلتي عن عناصر الحياة المفقودة الآن، التي عندما تُمزج وتُستوعب جيداً، يمكنها أن تعطي الألوان الرمادية الناعمة الطبيعية اللازمة لخلق وجود منسجم وثابت. إن مجرد النظر إلى كنيسة القلب الأقدس من أيّ بقعة على امتداد شارع لافيت في يوم كهذا، وفي ساعة كهذه، يكفي لأن يجعلني أشعر بنشوة غامرة. وكانت تحدث فيّ التأثير ذاته حتى عندما أكون جائعاً ولا يوجد لدي مكان آوي إليه. هنا، حتى لو كان في جيبي ألف دولار، فإني لا أعرف مشهداً آخر يمكنه أن يثير فيّ شعوراً بالنشوة.

تعليقات