هكذا نتعلّم | أليسون غوبنيك

كيف نتعلّم؟ | أليسون غوبنيك

هكذا نتعلّم

بقلم : أليسون غوبنيك

ترجمة : سفيان حودة



كل ما توصل إليه أطباء علم النفس التنموي خلال الثلاثين عاماً المنصرمة ينصب في اتجاه واحد وهو أن الأطفال هم أكثر ذكاءً مما نعتقد بمراحل عديدة، فأدمغتهم أكثر اتساقا ومرونة ونشاطاً مما ستصبح عليه فيما بعد. فقد فكروا (الأطباء) بصورة تجريدية، ومنطق رزين واستخلصوا النتائج الصحيحة من خلال المعطيات. 



فلنأخذ مبدأ السبب والنتيجة، ولنعد إلى بياجيه، الذي يقول بأن الأطفال دون سن الدراسة يكونون مفكرين "قبل وجود الأسباب". بيد أن الدراسات كشفت لنا الآن أنه حتى الأطفال الصغار لديهم القدرة على اكتشاف العلاقات السببية الخفية والمعقدة. وفي مختبرنا للتطوير الإدراكي بجامعة كاليفورنيا بيركلي، بالولايات المتحدة الأمريكية، أعطي أطفال تتراوح أعمارهم بين سنتين وأربع سنوات أداة بها مجموعة من المسننات والمفاتيح التي تجعل من المسننات الأخرى تدور، فالأطفال ذوو الأربع سنوات اكتشفوا سريعاً كيف تعمل هذه الأداة رغم أن الأمر يتطلب تفكيراً معقّداً كالتفكير الذي يستخدمه الحاسوب لاستغلال البيانات. فالأطفال دون سن الدراسة يقومون بإنجاز هذه الأعمال عبر إعارة اهتمام جيد لما تقوم به الأداة ومن ثمة يراقب الأطفال البالغون بتمعن ويلاحظون ما الذي يحصل بعد ذلك ويقومون بتجربة الأداة بأنفسهم. 



ولكن إليك السؤال الكبير: إذا كان الأطفال الذين لا يذهبون إلى المدرسة يتعلمون بهذه السهولة، لماذا يبدو أن الأطفال الذين يذهبون إلى المدرسة يتكبدون مشقة في التعلم؟ لماذا يستطيع الأطفال أن يحلوا مسائل تتحدى الحاسوب، ولكنهم يتعثرون في امتحان القراءة في الصف الثالث؟


عندما نتكلم عن التعلم، فإننا نتكلم عن شيئين مختلفين؛ عملية الاكتشاف وإتقان ما اكتشفه المرء. فجل الأطفال بطبيعتهم لديهم الحافز لإنشاء صورة دقيقة عن العالم. وبمساعدة البالغين يتم استخدام هذه الصورة لوضع توقعات، وطرح استفسارات وتخيل تصور بدائل أخرى، ورسم خطط؛ فلنعطها اِسم "التعلم بالاكتشاف".

إذا كان هذا النوع من التعليم هو الجواب للسؤال الكبير فالمدارس إذن لا تعلم الأطفال بنفس الطريقة التي يتعلمون بها. فبالعودة إلى التجربة السابقة، يبدو أن الأطفال يتعلمون أفضل عندما يمكنهم استكشاف العالم والتفاعل مع البالغين المتمرسين. فقد قامت البروفيسورة باربارا روغوف، أستاذة علم النفس في جامعة كاليفورنيا، بسانتا كروز بالولايات المتحدة الأمريكية بدراسة عن الأطفال الذي ترعرعوا في القرى الفقيرة في الهند وغواتيمالا، فصغار القرية أتقنوا تدريجيا مهارات معقدة كتحضير أكلة التورتيلا منذ الصغر في سن 2 حيث يقوم بإعداد العجين وعند بلوغ الطفل العاشرة من العمر توكل إليه مهمة صنع التورتيلا من ألفها إلى يائها، فالأطفال يتعلمون عبر مراقبة البالغين، والقيام بمحاولات بأنفسهم، ويتلقون إرشادات تصحيحية، ذلك أن الأمهات لديهن القدرة على تقييم دقيق لقدرة الطفل قبل تشجيعه على الانتقال إلى الخطوة الموالية. 



قد يبدو الأمر كأنها وصفة تقدمية وعاطفية، ولكن لنضرب مثالا جيدا للتعليم في الثقافة الأمريكية؛ نجد المدرب الحازم والمحبوب. ترى كم لدينا من الأساتذة الماهرين في الكتابة أو العلوم أو الرياضيات يتمتعون بمهارة مدرب كرة القاعدة العادي؟ وحتى عندما يكون الأستاذ خبيرا، فكم من التلاميذ يمكن أن يروه يكتب مقالة أو يقوم بإجراء تجربة علمية أو يقوم بحل مسالة رياضية غير مألوفة؟ 


تصور معي لو كانت كرة القاعدة تدرس كما تدرس العلوم في أغلب المدارس، حيث يتلقى التلاميذ دروساً عن تاريخ بطولات كأس العالم، أما تلاميذ الثانوية فسيقومون بتقليد حركات اللاعبين السابقين، ولن تسنح الفرصة لأحد بأن يلعب في الملعب حتى يتخرج من الثانوية.

ولكن هناك جانب آخر للسؤال. 

التعلم بالاكتشاف -اكتشاف كيفية عمل العالم أو معرفة كيفية صنع التورتيلا- فالأطفال يتعلمون كيف يحلون المسائل الجديدة، ولكن ما الذي يُنتظر، جزئيا على الأقل، من المدرسة. إن الأمر يتطلب عملية أخرى مغايرة تماما، فلنعطها اِسم "التعلم الخاضع للروتين"، وهو شيء ما تم تعلمه في السابق وأصبح متقنا حتى صارت تأدية تلك المهارة تتم بشكل سلس وبسرعة. 


فكلا النمطان للتعلم يبدو أنهما يستخدمان آليات مختلفة وحتى مناطق مختلفة من الدماغ والقدرة على عملهما تتطور مع اختلاف الأطوار، فالأطفال الصغار يتقنون مهارة الاستكشاف بذكاء البالغين أو أفضل، غير أن التعلم الخاضع للروتين يتطور لاحقاً، وربما تقع تغييرات على مستوى الدماغ تساعد على ذلك، وهناك أيضاً التفاضلات: يبدو أن الأطفال يتعلمون الأشياء الجديدة بشكل أسرع من البالغين، ولكن خصوصاً مع الوصول إلى سن الدراسة يصبح العلم أكثر انغراسا وتلقائيا ولهذا السبب، يصبح من الصعب وقوع تغيير. بمعنى آخر، التعلم الخاضع للروتين مغزاه أن لا تصبح أقل ذكاء أكثر من أن تصبح أكثر غباء، فهو يعنى أساساً بإتقان الإجراءات التي لا تتطلب جهداً، وهذا يفسح المجال للأفكار وللاكتشافات الجديدة. 


إن النشاطات التي تعزز الإتقان قد تكون مختلفة عن تلك النشاطات التي تعزز الاكتشاف، فالذي يجعل العلم تلقائيا هو ما يحيلك إلى قول كارنيجي هول- الممارسة، الممارسة، الممارسة. ففي بعض الأوساط، كالقرى في غواتيمالا، فإن ذلك يحدث تلقائيا، اِصنع كل يوم أكلة تورتيلا وستصبح بارعا فيها، وفي ثقافتنا، الأطفال يكبرون متقنين ألعاب الفيديو سواء كانوا فقراء أو أغنياء لأنهم يلعبون لساعات. 

أما في المدرسة فنحن بحاجة للحصول على مهارات عير طبيعية كالكتابة والقراءة. فهذه الأشياء تبدو بدون معنى، فليس هناك اكتشاف جوهري لتعلم فك الرموز والأصوات وفي بيئتنا الطبيعية لا يمكن لأحد أن يفكر في هذا النوع من الاكتشاف، ومن جهة أخرى، فإنّ إتقان هذه المهارات يعتبر شيئاً أساسيّاً يسمح لنا بمزاولة قدرتنا على الاكتشاف في هذا العالم الرحب.


المشكلة بالنسبة للعديد من الأطفال في الابتدائية ليست في كونهم لا يتمتعون بالذكاء بما يكفي ولكن في كونهم ليسوا أغبياء بما يكفي، لم يفلحوا في جعل القراءة والكتابة بمنزلة المهارات السلسة والتلقائية. ويصح هذا القول بالنسبة للأطفال الذين ليست لديهم فرص طبيعية لممارسة هاته الكفاءات، فالتعلم في مدارس تتسم بالفوضى والفقر ينتج عنه حياة بئيسة وفوضوية.


ولكن التعليم الخاضع لروتين هو ليس غاية في حد ذاتها، فالمدرب الجيد سيجعل من لاعبيه يرمون الكرة إلى القاعدة الأولى نحو 50 مرة، أو يلوحون بعصا البيزبول لعدة مرات ومرات في قفص القذف، فهذا سيساعدهم، لكن هذا لن يجعل من اللاعب ماهرا، فاللعبة نفسها تتطلب الاستجابة إلى عدة ضربات، ورسم استراتيجيات للجري نحو القاعدة وهذا يتطلب تفكيراً ومرونة وإبداعاً. 


الأطفال لن يتعلموا كرة القاعدة إذا اكتفوا بممارستها فقط، فلا المدرب يستطيع أن يضع تقييماً لأداء الطفل ولا المجتمع سيقيم أداء المدرب بناءً على أداء الأطفال في قفص القذف، فالذي يجعل التعليم مفيداً هو التوازن بين عمليات التعليم حيث يسمح للأطفال بالاحتفاظ بذكائهم الأصلي بينما هم يسيرون في طريق النمو. 



تعليقات