ترجمات | لماذا نشعر دائماً بالتعب؟


لماذا نشعر دائماً بالتعب؟



لماذا نشعر دائماً بالتعب؟


سلافوي جيجيك

ترجمة : سفيان حودة




داهمتنا جائحة فيروس كورونا بمتناقضين سادا مشهدنا اليومي: أولئك الذين يعملون فوق طاقتهم حتّى الإنهاك (الطواقم الطبية، ومقدمو الرعاية...)، وأولئك الذين ليس لهم ما يفعلونه لأنهم مجبرون قسرا أو طوعا البقاء في منازلهم التزاما بالحجر الصحي. وبما أنني أنتمي إلى الفئة الثانية، فإني أجد نفسي مضطرا لاستعمال هذا المأزق لتقديم تصور عن الطرق المختلفة التي يمكن أن نشعر فيها بالتعب. سأسقط الذكر عن عمد التناقضات الجلية لعدم القيام بأية أعمال لأننا مجبرون على ذلك والتي نفسها تجعلنا نشعر بالتعب. وسأبدأ مع بيونغ تشول هان والذي يقدم لنا تفسيرا ممنهجا عن كيفية العيش في "مجتمع منهك".
يقول هان في هذا الصدد:
"مدفوعا بضرورة المثابرة وعدم الفشل، بالإضافة إلى تحقيق فعالية الجدارة، أصبحنا منخرطين ومضحيين في نفس الوقت ودخلنا في دوامة تدور فيها فصل الحدود والاستغلال الذاتي، والانهيار. 'عندما يكون الإنتاج معنوي، فإن لكل واحد منا الإمكانيات لإعادة إنتاج نفسه أو نفسها. فالنظام الليبرالي الجديد لم يعد نظاماً طبقيّاً في المعنى العام. فهو لا يتكون من الطبقات التي تظهر العدو المشترك، وهذا ما يعتمد عليه استقرار النظام'. ويقول هان إن الأفراد أصبحوا مستغلين لذواتهم: 'اليوم أصبح الكل يستغل نفسه من الداخل يعمل في مقاولته الخاصة، فالناس أصبحوا عبيدا وأسيادا في نفس الوقت. حتى الصراع الطبقي تحول إلى صراع داخلي مع أنفسنا، فالأفراد أصبحوا كما سماهم هان 'الرعايا المنجزين'، فهم لا يؤمنون بأنهم أصبحوا 'رعايا' مسخرين بل مشاريع: فدائما ما نجدد ونعيد ابتكار أنفسنا الشيء الذي يرقى إلى شكل من أشكال الإجبار والإكراه- بالفعل، يرقى إلى نوع أكثر من الفاعلية الذاتية والسخرة. كمشروع ينظر إلى نفسه على أنه حر من جميع القيود الخارجية، والمسألة هنا هي أنها تسخر نفسها للقيود الداخلية والإكراهات الذاتية والتي تتخذ أشكال الإنجاز المجبر وتحقيق الأمثلية. "

فبينما قام هان بتقديم ملاحظات بينة عن النموذج الجديد للذاتية  والذي من خلاله يمكن لنا أن نتعلم الكثير- فالذي يقدمه لنا من رؤى عن الأنا الأعلى- فعلى المرء أن يتذكر أن الشكل الجديد الذي تقدم به هان يبقى رهن الفترة الجديدة من العولمة الرأسمالية والتي تبقى نظام طبقي مع تزايد فجوة عدم المساواة، فمستوى الصراع والعدوانية من المستحيل أن يتم تخفيضه إلى مستوى داخل الشخصية "صراع مع النفس"، فمازال هناك الملايين من العمال المياومين في دول العالم الثالث، كما أنه توجد اختلافات كبيرة بين العمال غير المستخدمين المعنويين (سأكتفي بذكر قطاع الرعاية "للخدمات الإنسانية" كالعناية بالمسنين) فهناك فجوة كبيرة بين المدير الذي يدير ويملك الشركة والعامل الخانع يقضي أيامه في المنزل وحيدا مع حاسوبه الشخصي فهما ليسا على الإطلاق عبدين وسيدين في نفس الوقت.

هناك العديد من الكتابات عن نموذج العمل المتسلسل الذي كانت قد تبنته شركة فورد والذي تم استبداله بنموذج ابتكاري تعاوني والذي يفسح المجال الكبير للابتكار الفردي، وبالرغم من هذا، فالذي يحدث بفعالية ليس الاستبدال بل التفويض: فالعمل في مايكروسوفت أو شركة أبل يمكن أن يقال عنه أنه أكثر الأعمال تعاونية، ولكن المنتوج الأخير يتم صنعه في الصين أو إندونيسيا على شكل العمل المتسلسل لفورد. فخط التجميع يتم تفويضه ببساطة، إذن، لدينا قسم جديد من العمل: العمل الذاتي والاستغلال الذاتي للعمال (كما وصفه هان) في الغرب المتطور، فالعمل المتسلسل يحط من عزيمة العمل في العالم الثالث، بالإضافة إلى تنامي قطاع الرعاية الصحية بجميع أشكاله (عمال الرعاية، نادل....) حيث إن الاستغلال وارد جدا، الفئة الأولى فقط (المشغلة لنفسها، العامل الذي لا يعول عليه) ينطبق عليه وصف هان.

كل من المجموعات الثلاثة تحمل في طياتها نموذج محدد للتعب والإجهاد، فالعمل المتسلسل يحط من عزيمة في كونه يعتمد على التكرار، تصاب بإعياء شديد عندما تجمع مرارا وتكرارا نفس هاتف آيفون خلف طاولة في مصنع فوكسكون Foxconn في مدينة شنغهاي، وفي مقابل هذا الإعياء، ما الذي يجعل عمل الرعاية متعبا هو حقيقة أنك أيضا يدفع لك أجر من أجل أن تتظاهر بأنك تقوم بعملك عن حب، وأنك في الحقيقة تهتم ب"أشياء" في عملك، فعامل روض الأطفال أيضا يتقاضى أجرا لكي يظهر حنانا خالصا للأطفال، ونفس الشيء ينطبق على أولئك الذين يعتنون بالمسنين، هل لك أن تتخيل العبء الذي عليك تحمله لكي "تبدو لطيفا" دائما؟ بعكس النطاق الأول والثاني بحيث يمكن لنا أن نحافظ على بعض المساحة الداخلية نحو ما نفعله (بالرغم من أنه يتوقع منا أن نعامل طفلا بلطافة ويمكننا فقط أن نتظاهر بذلك) أما النطاق الثالث فيتطلب منك شيئاً أكثر تعبا، فلنتخيل أنه تم توظيفي لعمل إشهار أو تغليف منتوج من أجل إغواء الناس لشرائه، حتى وإنني على المستوى الشخصي لا أعير اهتماما لهذا أو حتى أنني أكن كرها لهاته الفكرة، إلا أنني يجب أن أنخرط بنوع من الحدة بإمكانية المرء في إيقاظ ملكات تفكيره الإبداعية والمحاولة لإيجاد حلول أصلية، مثل هذا الجهد يمكن أن ينهك قواي أكثر من أي شيء مطنب وممل مثل العمل المتسلسل، هذا النوع من التعب هو الذي تحدث عنه هان.

وأخيرا وليس آخرا، ينبغي أن نتجنب إدانة التحكم الذاتي والإخلاص في العمل ونشر عقلية "هون عليك" والجملة الألمانية "العمل يحررك" مازالت الشعارات الحقيقية، بالرغم من أنه أسيء استخدامها مع قبل النازيين، إذاً ولنختم مع هذه الجائحة، نعم، هناك عمل جاد ومضني مع العديد ممن يتعاملون مع تأثيراتها، إلا أنه عمل ذو قيمة لصالح المجتمع، والذي يجلب معه رضاه الخاص وليس الجهد المغفل للنجاح في السوق، عندما تخور قوى عامل طبي من العمل أكثر من وقته، عندما يتعب عامل الرعاية فهم يشعرون بتعب مختلف تماما عن التعب من هوس تغيير المهنة.

هكذا وصف صديقي الألماني أندرياس روزنفيلدر Andreas Rosenfelder والذي يعمل صحفيا في جريدة دي فيلت، الموقف من الحياة اليومية التي تلوح في الأفق "يمكنني الشعور حقا بشيء بُطولي بهاته الأخلاق الجديدة، حتى في مجال الصحافة- الكل يعمل ليل نهار من منزله هناك من يعقدون مؤتمرات عبر الفيديو ويعتنون بالأطفال أو تدريسهم في نفس الوقت، لكن لا أحد يعلم لماذا يفعل ذلك، لأن الأمر لم يعد مقتصرا على "أحصل على المال وأذهب في إجازة ...إلخ". فمع أن لا أحد يعلم إذا ما كانت هناك عطلة مرة أخرى أم لا وإذا ما كنا سنحصل على المال أم لا، إنها فكرة العالم أن تحصل على شقة، والأساسيات مثل الأكل...إلخ، وحب الآخرين ومهمة ذات أهمية  الآن أكثر من ذي قبل، فكرة أن المرء يحتاج إلى "أكثر" أصبحت غير حقيقية الآن لأنه يمكنني أن أتصور وصفا أفضل لما يمكن أن يطلق عليه المرء حياة كريمة غير متنافرة.



















حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-