پ

حضورٌ واحدٌ وجوهٌ متعدّدة

حضورٌ واحدٌ وجوهٌ متعدّدة

حضورٌ واحدٌ وجوهٌ متعدّدة

رحيم دَودي



امتدّت يدُ البياضِ برفقٍ شديدٍ ثم ارتدّت إلى مَوضِعِها. تلولبَ الماءُ في عمقِ الكأس الشّفافِ. تداخلت كلماتُها الصّامتةُ بصمتهِ الـمُتكَلِّم. كانَ على بُعدِ مترٍ منها. هل قلت متراً! كانَ على بُعدِ شمعةٍ أو قُبلةٍ. كانت النظرةُ بينهما حوار الظّل مع الظّل. تساءلَ بصوت مخنوقِ النبر: هل تمتلكُ وجهاً؟ مالَ قليلاً ليتأكدَ من حقيقةِ وجودِ الوجه، وجهها، في العيانِ الخارجي. شُدِهَ. جسدٌ بلا رأسٍ؛ بلا وجهٍ تسكنهُ عينانِ: هاتانِ اللؤلؤتانِ الفائضتانِ بالانفعالِ وحركة الشعور الدّال على إنسانيّة الإنسان.


انكفأ على حاسوبهِ يَقْرَأُ مخطوطةً موشومةً بحروفٍ ترتدُّ إلى زمنٍ سحيق. مخطوطة وجدها في بريدهِ الإلكترونيِّ. أرسلها شيخٌ نذرَ حياته عبادةً للشمس والقمر. وجدها مُــذيلةً برسالةٍ مؤدّاها: "اقرأ لتعرفَ أنّك "آخَرٌ" تحيا بجسدِ غيرك. اقرأ لتعرف عددَ الأصواتِ التي تتحدّثُ عَبْرَكَ. ولا تصدع بحقيقتك حينها؛ لأنّها قد تكون سببَ هلاكٍ أكيدٍ". من وقتها وهو يتعقّب المعاني الهاربة على صفحاتِ مخطوطةٍ تغيّر، كلّ يومٍ، وجهها. كانَ صوتُ "ريكاردو" يهمهم في أذنه: أنتَ جسدي القادم. أنت لباسي في العصر الأخير. وتلكَ التي تبحث عن وجهها هي إميليا تطلُّ متوجسّة، خائفةً، متردّدة، من جسدٍ آخر.


أحسّ، في لحظةِ الارتجاج هاته، أنّ الوجودَ برمّته يؤوب إلى أولانيّته. كلّ شيء يَغرقُ في الظّلامِ الأوّل. تفقدُ الموجودات حدودها وأشكالها لائذةً بهشاشتها الأصليّة. تتحيّز خارج إدراكٍ يُصفي ويعي ويرسمُ التخوم والأشكال. في وسط هذا العماءِ كانت صورةُ "ريكاردو" تلتمعُ وتـمّحي متفجّرةً إلى آلاف الشظايا. كلُّ شظيّة تبرقُ بوجهٍ. آلافُ الوجوه: وجهٌ ضاحكٌ، وجهٌ باكٍ، وجه غاضبٌ، وجه ممتعضٌ، وجهٌ متشفٍ، وجهٌ حزينٌ، وجهٌ ماكرٌ، وجهٌ متوسلٌ، وجهٌ منافقٌ، وجهٌ كاذب، وجهٌ صادق، وجهٌ خائنٌ، وجه صارمٌ...وجوهٌ تلتفُ حولَ بعضها. تتداخلُ قسماتها. تتناسخُ على نحوٍ مرعبٍ، عصيّ على الاستيعاب.


أطفأ الحاسوب. وضع نظارتهُ الطبيّة على الطّاولة. أخذ فنجان القوة ليرشفَ قطرةً سوداءَ. في طريقِ الفنجانِ إلى الشفاه تبدّى له وجهٌ حزينٌ على صفحةِ القهوةِ. أحجم عن الارتشاف. أمعن النظر في الصّورة المنعكسَة. سأل الصورة/ الوجه: من أنتِ؟ من أيّ حفرةٍ نهضتِ؟ غارت الصورةُ، في قاعِ الكأس، مبتسمةً ابتسامةً مُتشفيّةً. سكبَ القهوة في كأس الماء. رقبَ امتزاجَ السواد بالبياض. توضّعت القهوة في القعر. تراقصَ السطح كاشفاً صورةَ "مريم" بعينينِ مغريتين إغراءً ساحقاً. ثم حركت شفتيها بلغةٍ مائيّة مضمونها: قبّلني لكي تجدَ صورتكَ/ وجهكَ...


صَعقهُ الطّلبُ. لملمَ أشياءه بارتباكٍ وعشوائيّة. اتجهَ نحو مرحاضِ المقهى. دلقَ القهوةَ المتهيّجة من أمعائه. كانت قطراتُ القهوةِ تنزلق في المجلى محمّلةً بآلاف الصّور. رفعَ وجهه إلى المرآة. بصقَ على وجهه. في اللحظةِ التي همّ فيها بالخروج. وجدها أمامهُ: الفتاة المنمّشة ذات الشعر النحاسي التي كانت تجلسُ قبالته في المقهى.

حاول تفاديها. بيد أنها استوقفته قائلةً: ألن تقبّلني؟!

تعليقات