يومٌ مختلطٌ
رَحيم دَودي
بعدَ التكريم الإمبراطوري الذي حظيَ به حمّادي جنوبَ البلاد، صفا ذهنه وراقَ إحساسهُ الدّاخلي؛ فقد برزت صورتُه لامعةً في المشهدِ الأكاديميِّ المغربيّ والعربيّ. وأظنُّ أنّ صوره المنتشرةَ على الفيس بوك كانت تنافسُ صور "جنيفر لوبيز" و"ليدي غاغا" و"ميا خليفة"، الأمــرُ الذي جعلَ إدارة فيس بوك تدمغُ صفحتهُ بعلامة التميّز الدّالة على المشاهير. أصبحَ "حمّادي" رمزاً رقميًّا ذائعاً وعلامةً تجاريّةً متميزةً في عوالم الافتراض الزرقاء. لم يكن ينافسه في هذا الفتح الرقميّ منافسٌ.
بعدَ أنْ استرخى في منزلهِ أسبوعين كاملين، أرسلَ رسالةً قصيرةً على الواتساب، مضمونُها: ضرورةُ حضورِ كلّ الطلبة يوم الأربعاء صباحاً لــتوزيع البحوث وتحديد خطّة العمل. لم يطلب منا تقريراً نشرحُ فيه مقترح البحثِ وسبب اختياره. اعتقدت، في بدايةِ الأمرِ، أنّ "حمّادي" سيتساهلُ، عكس ما نعرف عنه، وسيجعلنا نشتغلُ بيُسرٍ دونَ إثقالٍ أو توجيهٍ مُجحفٍ. لكن هيهاتَ أن يحدثَ ذلك معه. اقترحَ الطالبُ "حزين" أن ننظّم حفلةً صغيرةً احتفاءً بمناسبة التّكريم. لاقى الاقتراحُ ترحيبَ الجميع دون استثناءٍ. حدّدنا قيمة المساهمة في خمسينَ درهماً للطّالبِ. واتفقتُ بمعية "عيشة" و"حزين" على التكلف بمَهمَّة التنظيم.
كانت القاعةُ، يومَ الأربعاءِ صباحاً، مزخرفةً بكلّ الألوانِ. جعلنا كلّ طاولة حذوَ الأخرى، مُشَكِّلينَ طاولةً كبيرةً مثقلةً بأصنافٍ متنوعةٍ من الحلويات والعصائر والمشروبات الغازيّة. وضعت الطالباتُ "الفوفوزيلاتِ" في أفواههن استعداداً للنفخ. بينما كان الطلبة يشحذون حناجرهم تأهباً لإنشاد أغنيةٍ بطوليّةٍ، من إنجاز إلتراس "كَرين بويز" (Green boys) مع تحويرٍ بسيطٍ، قام به الطالب "حميد" حتى تتساوق الأغنية مع السياق. عندما ولجَ "حمّادي"، متأخراً ساعةً كعادته، تصاعد نفيرُ الفوفوزيلات عالياً ممتزجاً بالأغنية البطوليّة: "هلا لا لا لا لا لا حمّااادي بطلٌ...هلا لا لا لا لا لا حمّاااادي بطلٌ...ولاو يعيرونا "حُرام" وصحابو...ويهذروا على لبَّاصِي أْنْسَو حَنَا لِينْحْكمُوا...وليوم دارت الأيام تَـــوليتو تفهموا...صَاحبي دِيزُولِـي وَقْتَاشَ تْبلْدْتُو...؟".
دخلَ "حمّادي"، بدايةً، القاعةَ متظاهراً بجديّة عابسةٍ، ثم بدأت ملامحهُ ترتخي كحبلِ غسيلٍ متلاشٍ، ليُفرج، في الأخير، عن ابتسامةٍ عريضة. اهتزت في دواخلهِ مشاعرُ النصر والمجد والبطولة. والحقّ أن "حميد" كانَ موهوباً في إلهاب الأجواءِ حماساً لا يمكن مقاومته. موهبةٌ تفجّرت كوامنها داخله حينَ كان يتزعمُ جماهير الرجاء البيضاوي؛ محوِّلا إياهم إلى وحدةٍ متناغمة تتماوجُ، على المدرجاتِ، بنظامٍ رياضيٍّ دقيقٍ جداً. استغرقتني حال الحماسة فانغمست راقصاً بفوضويةٍ رعناء. أما "عيشة" فقد فقدت صوابها، وجعلت تنطُّ كضفدعةٍ حمقاءَ تفتشُ عن ضفدعها السابحِ، في المستنقع، على ظهره.
حينَ انخفض منسوب الحماس في دمي استفقتُ على مشهدٍ خرافيٍّ. كان "حمادي" يتمايلُ كشيخةٍ محترفةٍ، رافعاً يديه عالياً، بينما مؤخرته تترجرجُ يميناً ويساراً. بعدها غيّرَ مسارَ الاهتزاز من تحريك المؤخرة إلى وضعِ اليد على الجبهة مع إخراجه كرشه العظيمة وإِدخالها وَفْقَ قواعدِ علم الرقص الشعبيّ. اختلطت عوالم التشجيع الكرويّ بالرقص الشعبيّ. جوٌّ لا يمكن أنْ تراه في عرسٍ مغربيّ قحٍّ؛ حيث تلتقي الفنونُ والثقافاتُ وتذوب الظنون والاختلافاتُ، ويصير الجميع أحباباً وأقاربَ.
استيقظ "حمّادي" من مهرجان الرقصِ مُنهكاً. كانَ العرق يتفصّد من جبهته متحدراً عبر الخدين ليلتقي عند الذقن على شكلِ خيطٍ مُتصلٍ. دعا الطلبة والطالبات إلى الجلوسِ قُبالة طاولة الحلويات، قائلاً بصوتٍ منتشٍ: "الله يجعل البركة...نِعْمَ الطلبة والطالبات...نهار كبير هذا... والله العظيم، في هاذ النهار الـمقدّس، هيلا المعرفة مع الرقص والشطيح لَعَنْدْهَا مفعول عميق في النفس...وشوفوا: من هذا النهار فصاعداً غادِي نبرمجوا واحد الحصة أسبوعياً للتفريج عن النفس...وما كاين غير الزرود...". ابتسمَ الجميعُ مُطرقين رؤوسهم دلالة الموافقة والقبول. كانت "عيشة" و"إيمان" توزّعان الحلوى والعصائر علينا. استأثر "حمّادي" بحصة الأسد من كلّ شيء: من الرقص والغناء والحلوى والعصائر.
بعدَ الأكل والشرب أخذ ورقةً بيضاءَ وشرع يوزّع البحوث علينا بعشوائية مفرطةٍ. طلبَ منّي أن أجمع جميع أعداد أوّل جريدةٍ في المغرب وأن أعيد رقنها بخطّ واضح، ثم أهاب بي تحليل "حكاية فرخ الرّخ" بالاعتماد على الإجرائيات التحليلية البنيويّة، منبهاً إلى ضرورة عدمَ تعدي البحث حدودَ ثلاثين صفحة. كما طلبَ من "حميد" أن يبحثَ عن أوّل مخطوطِ كتابٍ صدرَ في تاريخِ الحضارة المغربية، وأن يحققه ويرقنه وفقَ نظامٍ محدّدٍ مع تحليل حكاية "السندباد البحري" استناداً إلى خطوات المنهج الاجتماعيّ. أما "عيشة" فأمرها بترجمةِ روايةِ "دون كيخوته دي لا مانشا" من اللغة الإسبانية إلى اللغة الإنجليزية، ثم أن تترجم ترجمتها الإنجليزية إلى اللغة العربية، مع بحث في التاريخ السلاليّ للرواية الغربية.
نظرتُ إلى "عيشة" فألفيتُها تتميّز غيظاً من هذه البحوث الأسطوريّة. أَغَرَضُ الرجل أن نُنجزَ بحوثا في مواعيدها القانونية أم أن نصاحبَه في الجامعة طوال مساره المهني؟
ندمتُ على قبولِ تنظيم هذا الحفل، لم يتغيّر شيء في "حمّادي"، استعذبَ اللعبة واستحلاها، لقد وجدَ حميراً يشبهون حمير والده في الجبل، ولن يتركنا نحوز الشهادةَ إلا بعدَ أنْ يمتطينا جميعاً. ثارَ داخلي. الفقر والجوع والمرض وابن الكلب يُعطّل مُستقبلاً تلبيةً لعقدةٍ نفسية عميقة تتوضّع في قعره، ونكايةً فينا، نحنُ الذين ولدنا في الهامش ونطمحُ إلى تغيير وضعنا. عندما أنهى "حمّادي" التزامه المهني معنا على أحسنَ وجهٍ، نظرَ إلينا نظرةَ التذاذٍ، وانصرفَ كديكٍ روميّ يُدَاري جحافل الدجاجات العاشقات المتمايعات...
نظرتْ إليّ "عيشةَ" بوجعٍ ونظرتُ إليها بألمٍ. خاصرتُها بحنوٍ ولطفٍ. ابتسمت في وجهها مُطَمْئِناً، وانسحبنا، مندغمين، نحو البحر والهواء والخلاء المديد...