أفقٌ مكسورٌ
رَحيم دَودي
استيقظتُ على وَقْعِ رنينِ الهاتفِ. كانت الساعةُ التّاسعة صباحاً. بَدَا اسمُ "عيشة" ملوَّناً على الشّاشة. مَا بَالـُها تهاتفني معَ منبتِ الصّبح؟ ألا تعرف المهبولةُ أنّي سهرتُ؛ أتلمّظُ كرياتِ "القاتلاتِ" (يقصدُ المعجون)، طوالَ الليلِ. فتحتُ الخطّ فاقتحمني صوتها مُمَغنطاً كصوتِ "شاكيرا" في أشهى أغانيها. قالت: "ما رأيكَ أن نقضي اليومَ معاً، إنْ وافقتَ التقينا، بعدَ ساعتين، عندَ بابِ الكلية وانطلقنا". أبديتُ مُوافقتي مُتحفّزاً. أخذتُ حمّاما سريعاً تحت سقف القصدير. ارتديتُ بدلتيَ الأنيقةَ الوحيدةَ التي أملكها لمثل هكَذا مناسباتٍ. حينَ همَمتُ بالانصرافَ باغتتني والدتي سائلةً عن وُجهتي -فقد أخبرتها، قبل ثلاثة أيام، أن "حمّادي" سيتغيبُ شهرا كاملاً قابلاً للتمديد. لهذا، لا حاجة لها أن توقظني كلّ جمعةٍ صباحاً- أجبتها مبتسماً فردّت على ابتسامتي بابتسامةٍ تشي بفهمها وُجهتي. أخرجت من بينِ ثدييها صرّة معقودةً ألف عقدةٍ، وأمدتني بعشرين درهماً، داعيةً لي بالآمن والتفوق حتى أغدوَ دكتوراً جامعياً، وأنقذها من الفقر والإملاق. كانت أمّي وحيدتي وكنتُ وحيدها. وكان الحبّ لغتنا الوحيدةَ...
وصلتُ إلى الكليّة فوجدتُ "عيشة" تنتظرني عند بابها. كانتْ ترتدي فُستاناً جُورياً موشّى بخيوطٍ حمراءَ، وتنتعلُ حذاءً جديداً شديدَ البياض كالثلج. بدا قوامها ممشوقاً كغصنٍ يتثنى مع أدنى هزة ريحٍ. أما الوجهُ فكان قصيدةً غزليةً نَظَمَها شاعرٌ قديمٌ وارتمى في النهر. قبّلتني على خدّي الأيمن فقبّلتها على خدهاّ الأيسر. نظرتْ إليّ فنظرتُ إليها. عرفنا وجهتنا. ضَلَعتُها إليَّ ومضينا معاً. في الطّريق إلى البحرِ مررنا ببائع سندوتشات سريعةٍ. طلبتُ اثنينِ، وحينَ هممتُ بإعطائهِ عشرين درهماً، منعتني "عيشة" عن ذلك بحركة يدٍ زاجرةٍ. مُقسمةً أنها من سيؤدّي ثمن الغذاء اليوم، فهي صاحبة الدّعوة.
كانَ البحرُ صافياً، هادئاً، مُسبِّحاً بحمدِ زُرقته الساجيةِ. انتبذنا مكاناً قصيًّا حيثُ لا تُدركنا العيونُ المتلصّصةُ. وبدأنا الحديثَ عن البحوثِ التي ألزمنا بها "حمّادي". أخبرتها أنني لم أبدأ قراءتها بعدُ. فليسَ لي مالٌ لاقتنائها. وأنا الآن بصددِ البحث عن "بريكولٍ" (عملٍ عرضيّ) لتوفير المبلغ الكافي. فــ"حمّادي" كانَ يفرضُ علينا شراءَ كتبه من مكتبات مخصوصةٍ. أخرجتْ من محفظتها كتباً مُغلّفة بأناقةٍ وقالت: "هذه كتبُ حمّادي هديتي لكَ يا حبيبي". كدْتُ أبكِي. أغمضتُ عينيَّ بُرهةً مُدارياً فيضَ المشاعرِ التي انتابتني. أخذتُ يديها وقبلتُهما بهدوءٍ خاشعٍ. وحينَ آبَ مسارُ الشعورِ إلى دفقه الطبيعي قلت لها: "ما أفسدَ نظم التعليم عندنا يا حبيبتي، يتركنا "حمّادي" في شرخِ الموسم الجامعي ويمضي متجولاً بين الجامعات العربية". استغربت "عيشةُ" من قولي، وحدجتني بنظرةٍ مستفزةٍ مُستنكرة ثم قالت: "هل صدقت ما قالهُ الجاهلُ...ليس هناك أية التزامات دولية أو وطنية...الجاهلُ يتمطى في سريره كدودةٍ مفلطحةٍ...يتذرّع بالمرضِ...فبعدَ حادثة النتف والعضّ وجدَ الفرصةَ سانحةً لكي يأخذ إجازةً صيفية وسط الموسم". سقطَ فكي، مرّةً أخرى، إلى قاعِ البحرِ. لـم أفهم شيئا. عيبي الدائم الذي ورثته دما عن دمٍ هو التصديق السريعُ الساذج لكلّ ما يُقال. عُدت إلى رُشدي، جزئياً، سائلاً "عيشة"، بصوت غائر: "من قال لكِ ذلك؟". أخرجتْ هاتفها وأسمعتني مكالمته لها، قبل يومين، طالباً منها أن تلتقيه في مقهى "العشاق" لمناقشة بحثها. رأيت البحر، آنها، يتضاءلُ ويتضاءلُ حتى غدا نقطةً صغيرةً في قلب الصحراء. كانت "عيشة" في هذه اللحظة تخرجُ "السندويتشين" من غشاءِ الألمنيوم. مدّت لي واحدًا وتناولتِ الآخر ثم قالت: "اسمع، يا فقيري، جيداً ولا تستغرب واعذرني إنْ قلتُ شيئًا يخدشُ مكانتي عندكَ". ابتسمت في وجهها متفهمّا. فلو طلبَ "حمّادي" مني نفس الشيء ما كنتُ قادراً على الرفضِ؛ فحاجتي إلى الشهادة أشدّ من حاجتي لشيء آخر. قالت "عيشة" بصوت ممتعضٍ:
هاتفني ليلة الاثنين الفائت. حين رأيت رقمه على هاتفي ارتجفت أمعائي. خشيتُ أنْ تكون كارثة ما قد وقعتْ له مع طالبٍ، وهو، الآن، يبحث عن شهودٍ لم يروا شيئاً. فتحت الخطّ فجاءني صوته متلطّفاً رخيماً. بعدَ التحية أخبرني أن مشروعَ البحثِ الذي قدّمته واعدٌ ويستدعي قليلاً من المناقشة حتى يكتمل تميُّزه. شكرتهُ على كلامه المصطنع. بَيد أنه باغتني بضرورة أن ألتقيه غدا، على السّاعة الثامنة صباحاً، في مقهى العُشّاق حتى نستكملَ المناقشةَ. تحيّرتُ متسائلةً في دخيلتي "أليست له التزامات دولية...". سمعتُ صوته يتخامدُ عبر خطّ الاتصال قائلاً: "لَيلَتُكِ وردٌ وعشقٌ وجمال". فرددت عليه متعجّلةً: "تصبحُ على خيرٍ أستاذي المفضال"، وأنا أقصدُ: تصبحُ على نارٍ تحرق سُلالتك يا ابن الكلب. لحظاتٌ مُربكةٌ استغرقتني بعدَ مهاتفته. ماذا يدور في خَلدِ هذا الجاهل؟ أَ يُبَيّتُ شراً في طويّته؟ كيف الخلاصُ من هذه المصيبة الزبّاء؟ بتُّ أُدير رحى التفكير طوال الليلة. فلم أنم سوى ساعة مبتورة النهاية.
لم أغسل وجهي في الصباح. أفطرتُ بشاي وزيت زيتون مُثوّمٍ، وختمتُ الوجبة بما تبقى من "حريرةِ" البارحة. تعمّدت عدم تنظيف أسناني. لبستُ جلبابَ أمّي وتأبطت حقيبتي ثم انصرفتُ. وصلتُ إلى المقهى فوجدته مغلقاً. التفت يمنةً ويسرةً. لم أر أحداً. فجأة وقفت سيارةُ "حمّادي" أمامي. كان يطلّ من النافذة مرتدياً نظارةً شمسية في يوم شتائي كالحٍ ومُعتمراً قبّعةً مزركشةً بألوانٍ لم تكتشف بعدُ. طلب ركوب السيارة قائلاً: "تفضلّي أَلدكتورة عيشةً". فتحت الباب الخلفي، لكنه نهرني، بلطفٍ مصطنعٍ: "اركبي جانبي يا دكتورة...فأنا أعتزّ بطالباتي النبيهات". مدّ يدهُ مُسلّما فأحسست بأصابعي تُهصر وتُعصر. ثم قال:" نهار كبير هذا ألالة عائشة مين شفناك فيه". فطأطأتُ رأسي متصنعةً الحشمة ومتظاهرة بعدم سماعي جيداً. بعد خمس دقائق وصلنا إلى منزلٍ فخمٍ يقعُ في مدخل المدينة. فتحَ البابَ ودعاني لمرافقته.
كانَ منزلهُ بحجم ملعب حينا. ولست أعرف: أيسمى هذا منزلاً أم له اسمٌ آخر. فنحن النابتون في الأحياء العشوائية لا نعرف سوى الأكواخ وما شابهها. اقتادني نحو مكتبته ودعاني للجلوس على كرسيٍّ جلديٍّ وثيرٍ يبدو أغلى منّي. وطفقَ يحدّثني عن ابنته التي تدرسُ في فرنسا وزوجته القبيحة -على حدّ قوله- التي سافرت البارحة لتزور ابنتهما، وعن الحياةِ الرسمية التي تُكبّل أُفقه الحَداثيَّ، وعن حبّه للجمال بشتى تجلياته، وعن التزاماته الدّولية التي أرجأها إلى وقتٍ آخر. كنت، والحال هذه، أتظاهرُ بالإنصات لما يقوله من خطرفاتٍ وأراجيفَ. بينما "حمّادي" مُنغمسٌ في الـنّفخ والضّخ والبخّ. طوالَ هَذْرِهِ لم يتوقف عن الغمز. اقتربَ منّي وقال مُختبراً: "كيفْ كَنْجِيكْ؟". تظاهرتُ بعدم فهم قصده وقلت: "أستاذاً مفضالاً، عبقرياً، وحيدَ زمانه وهلمّ جرًّا...". ابتسمَ واستطردَ متمايعاً: "ووسيماً أيضاً...". حركت رأسي، مقهورةً، دلالة التأكيد. وضعَ يده على رُكبتي وعيونه تتمرّغ اشتهاءً. أخذ يقيس ميزان اضطرابي، ثم قال: "خذي راحتك، يا حبيبتي، أنا غادي نمشي للدوش ونرجع بعدَ قليل، إذا احتجتِ شيئًا يمكن أخذهُ دون إذنٍ...". أَحْنَيتُ رأسي علامةَ الشّكر.
تلقّفتني خطاطيفُ الموت. إلامَ يرمي ابن الكلب. هل يظنني عاهرةً؟ فكرتُ في الهروب. لكن أيجدي الهروب. قد يلفق لي تهمةً لا أعرفُ طبيعتها. أجلتُ بصري في المكتبة منتظرةً المجهولَ. فجأة رأيتُ كتابَ الألمانية الذي كانَ يتشاغل به يوم الامتحان، التقطتُ صورةً للعنوان وبحثتُ عنه في مترجم غوغل الفوري: (Kama Sautra: Sex mit vergnugen haben). كان عنوان الكتاب بالعربية: الكاماسوترا: ممارسةُ الجنس بلذّةٍ. ما أَنْ قرأت العنوان حتى فهمت أنّ الأمر يرتبط بكتابٍ إيروسيٍّ هندي قديم؛ يرشدُ فيه حكيمٌ ملوكَ الهندِ إلى الطرق الـمثلى لمُمارسة الجنس. وهذا الكتاب نسخة ألمانيّةٌ مطورّة عن أصل هنديّ. فتحت الكتابَ بدافعِ الفضول فهجمت على نظري صورٌ لوضعيات ممارسة الجنس: بدءاً من التقبيل وانتهاءً بالامتطاء الأكبر. لا أستطيع، يا فقيري، أن أفصح لكَ عن مدى اشمئزازي وقرفي حينها، اهتاجت أمعائي قرفاً، فإذا بي أتقيأ وسطَ المكتبةِ. دخلَ "حمّادي" فوجدني أتقيأ الشاي والزيتَ والثوم والحريرةَ والدموع تزدحم في عينيَّ كالسيل العميم. بدا على وجهه امتعاضٌ وتقزز. اقتربَ مني سائلاً: "مالكِ أ"عِيشة" شنو وقعليك؟ ياك لا باس؟ نظرتُ إليه بتفحّصٌ وقلت: مريضةٌ بالسلِّ والبلهارسيا وأخبرني الطبيبُ بأن أيامي معدودات".
بحثت عن "حمّادي" فلم أجدهُ. تركَ البابَ مفتوحاً وأطلق قدميه للريح...أقفلت الباب ورائي وركضتُ بلهوجةٍ كدجاجةٍ بلهاءَ نجت من أنيابِ ذئبٍ خدّاعٍ...
تقدّم لكم(ن) مدونة منهجيّتي، في هذا
الركن الثقافي والأدبي المتفرّد، باقة متنوعة من قصص وقصص عربية، وأيضاً قصص الاطفال، قصص للأطفال، وهي قصص قصيرة، قصص اطفال، كما أنها قصص واقعية، مثل قصص الحب، قصص حب، وقصص الأميرات، قصص الاميرات، بالإضافة إلى أن
هناك عدة قصص اطفال مكتوبة، قصص للاطفال، قصص المكتبة الخضراء، وقصص قبل النوم، قصص اطفال pdf،
قصص أطفال pdf،
ومجموعة كبيرة جدا من قصص
وحكايات : قصص رومانسية، قصص اطفال قبل النوم، قصص الاطفال قبل النوم، قصص للاطفال قبل النوم، قصص حب قصيرة، قصص بالانجليزية، قصص انجليزية، قصص قصيرة للاطفال pdf،
قصص للأطفال بالفرنسية، قصص باللغة العربية.