مذكراتُ الطّالب المدعُو "ح"

مذكراتُ الطّالب المدعُو "ح"

مذكراتُ الطّالب المدعُو "ح"

-بدايةُ النهايةِ-


إلى سيدةِ الظلّ، التي اختارت التخفي وراءَ الحجابِ الأزرق. حضوركِ في الوجدان أبهى وأصفى من حضوركِ في العيان...


|رَحيم دَودي |


وُجِدَ الكائنُ، كلُّ كائنٍ، ليتغيّر، يتجددّ، ويتطوّر. مسارٌ يسقطُ فيه الكائن مرّات ليقفَ، مرّةً واحدةً، بشموخٍ ثم يبلعهُ التّاريخُ بصمتٍ. الحياةُ سقوطٌ مستمرٌ. في كلّ سقوطٍ نتعلّم أمراً ما. إلــا "حــمّادي" قُدَّ من حجرٍ أصمَ تطايرَ مع الانفجارِ العظيمِ وبقيَ على هيئتهِ الأصليّة. 
"حمّـادي" نموذجٌ ناصعٌ عن توقفِ الزمن وركودهِ. كل شيء حوله يتغيّر ويبقى هو على حاله: متطاولاً، مُستبداً، متعملقاً، مالكاً مُطلقَ الحقيقةِ. لا يُدَاخِلُ الخطـأ قوله أو فعله أو حركته، ولولا خشية المظنات واتقاءُ شر التأويل لقلنا إنّه كان إلها إغريقيًّا نرجسيًّا يستلذُّ تعذيبَ طلبته. وأتساءلُ، بحيرةٍ متفاحشة، لِـمَ يأبى هذا المسخُ الانصياعَ لقوانينِ الزّمن والوجود؟ ألا يستطيعُ العيشَ دونَ تسلُّطٍ وعجرفةٍ وظُلمٍ؟ ألا يخشى أن يسوطَ الزّمن أبناءه كما يسوطُ هو طلبته جميعاً؟ ينبغي أنْ يجتمعَ عُلماء الجيولوجيا والكمياء والنّفس لدراسةِ هذه الظاهرةِ الـمُعقّدة علّهم يظفرونَ بنصفِ جوابٍ عنها.

توقفتُ عن التفكيرِ مُتلمظاً رُشافةَ القهوةِ. سرّحت بصري عبرَ نافذة المقصف. كنتُ أحملق في السماء بحسٍّ متبلّدٍ يكادُ يفقدُ اتصالهُ بما حوله. عُدت إليَّ بمشقةٍ كبيرة. بعدَ خمسِ سنواتٍ محروقةٍ في الهباءِ طردني المسخُ دونَ علَّةٍ أو سببٍ. كنتُ أحسُّني شخصا آخر. يتذابحُ داخلي الخوفُ والألم والإجرامُ على نحوٍ مُرعبٍ. تربّى لديّ نزوعٌ وحشيٌّ كنتُ أكابرُ خنقهُ. إذا كان التطويعُ الـمنظمُ، الذي وظفّه "حمّادي" في عملية إخضاعِ بعض طلبته لتوجيهاته، قد أسفرَ عن برمجتهم واستعبادهم ذهنياً ونفسيا، فإنه، في حالتي، قد أفضى إلى نمو وحشٍ داخليٍّ متعطّشٍ لسفكِ الدماء؛ دماء "حمّادي". كنت أراني، في الحلم، أَشربُ دَمَــهُ. وحينَ أستيقظُ صباحاً تدكُّني رعدةٌ مبهمةٌ لا أعرفُ لها سبباً. 

كنتُ شبيهاً بوحشِ فرنكشتاين: كائنٌ مرقّع من مزقٍ بشريّةٍ متعدّدةٍ. لا يملك هوية فيزيولوجيّة أو نفسيّة. تتلاطمه انفعالاتٌ ملتبسةٌ لونها أحمرُ فاقعٌ. لولا مقاومة الفكرِ الــمُتَأَمِّلِ ذاته، بضربٍ من فحصِ التحوّل المتنامي، لانزلقت، في النّزف الأخير، نحو الجريمة. حتى "عيشة" و"نبيه" كانا يَرْقُبَانِني بنوعٍ من التوجس والارتياب. كانت تجمعنا صداقةٌ خالصةٌ لا بيعَ فيها ولا شراء. وفي مواقفَ شتى كنا نحسُّ أن هذه الصداقة تزعجُ "حمّادي"، الذي يرى -نتيجةَ وسواسٍ قهريٍّ مُسْتَحْكِمٍ في نفسهِ- في الائتلاف تآمراً وخديعةً، لهذا كانَ يلوذُ بسياسةِ فرّق تسد، ليشتت القطيع، ويفتق المتصل، وينشرَ الفوضى.

أَخرجني "نبيه" من استغراقي. عانقني عناقاً حاراً. جلسَ قُبالتي بوجهٍ مُبتسمٍ يُدَارِي شفقةً خبيئةً. كنتُ أحسّهُ متألماً مما حدثَ لي. لم يُحْجِم يوماً عن تقديم النصيحةِ. كان يقولُ بخبثٍ لعينٍ: "مشكلتكَ، يا "حزين"، أنّك مِقَصِّيُّ الفعل والقول. لا تعرفُ المراوغةَ والالتواء، وهؤلاء لن يفهموا كلامكَ باعتباره طبعاً أصيلاً جُبِلَ عليه أهل الصحراء. فَصِدْقُكَ، بالنسبة لهم، قلّة أدبٍ وانعدامُ لباقةٍ. عليكَ تعلُّم الالتفافِ والكذبِ والنفاقِ إنْ شئتَ تحقيقَ الهدفِ. تَــمَسْكَنْ، يا صاحبي، حتى تَتَمَكَّنْ، حينها، ألهبهم واحرق رؤوسَ الأفاعي". كنتُ أفهم النصيحةَ جيداً، بَيدَ أنّ أمرَ تطبيقها كان يتعسّر عليّ. شيءٌ غائرٌ داخلي كانَ يمنعني. كلّما راوغتُ ألفيتني أقولُ الكلامَ خنجراً يثلمُ الخناجرَ.

لم أستطع كظم غيظي فقلت بسخطٍ مُتَفجّر حتى التفتَ إليّ عمّال المقصف مُبحلقينَ: "هل تعرف ما فعله بي ابن العاهرة؟ شتمني وسط مكتبه ورمى بحوثي في وجهي ناعلاً أبي وجدّي وجدّ جدّي. تصوّر ماذا قال هذا الأستاذ الجامعي المثقف: عيّرني بسوادِ لوني. قال لي: "سيرْ تَرْعَى الجْمالْ أ"لحرطاني" الموسّخ، وجه يمّاك ماشي ديال القراية يا الكلب ولد الكلب". كنت أستشيط غضباً. فكّرت أنْ أخنقَ أنفاسهُ بيديَّ الخشنتين وأُسقطه أرضاً وأتبوّل عليه بكلّ التذاذٍ وساديةٍ. آهٍ، في القلبِ سُعار الذئابِ وسخطُ القبائلِ. 

خمسُ سنواتٍ وأنا أمسحُ الأحذيةَ وأحمل البضائعَ في شوارع هذه المدينة الميتةِ نظيرَ توفير مبلغ الكراء والدّراسة. تحمّلت قرَّ الليلِ، وشتائمَ النّاس، وروائحَ الجوارب، وفي الأخير، يطردني المسخُ دون رحمةٍ. أَعْجَبُ كيفَ تستطيعُ هذه الجثة حملَ كلّ هذا الشّر والقبح والحقد؟ ما هذا الكائنُ المشروخ بالتناقض والافتراء والكذب؟ أين هي الحداثة والمعرفة والعدالة التي يلهج بها في المؤتمرات الدولية والوطنية؟ كم صورةً تتمرّغ داخل هذا الكائن الشائه؟ متى يستفيق من وحشيته المتمادية؟ كنت متأكداً من شيء واحدٍ: ما من طالبٍ درسَ عند حمّادي إلا وسيكونُ حمّالاً في نفسه لصور العُطب والعَطالة والتشوّه. كانَ يزرعُ، عميقاً، في نفسِ طلبته نوعاً من التقديس الذي يضمنُ له مكانةً خاصةً بعدَ تقاعدهِ. يفكّر في كل شيء. ويبرمجُ كلّ شيء، وهو على غبائه المفرط خبيثٌ جداً، أكثر مما يمكن أن تُصوِّرهُ مُذكرتي الضيقة هاته.

رجوته، ضاغطاً على كرامتي، أنْ يعذرني عما لم يصدر عني. كنت أخمّن حال والدي العجوز ووالدتي المريضة عندما يعلمانِ مآلي. فهما يعلّقان كلّ آمالهما عليَّ. كلّما هاتفتهما أخبرتهما بنجاحي وتفوقي. والحقيقة أنّي كنتُ متفوقا في كلّ المواد إلا في مادّة "حمّادي" والمواد التي يَحشر أنفه فيها بسبب سلطته على أصحابها. ماذا سأقول للحبيبين اللذين ربّياني وأفنيا عُمرهما وجهدهما في تعليمي. لن يقبلَ والدي فكرة الطرد. سيردُّ أسبابها جميعاً إليّ. لقد تربى، في الصحراء، على احترام المعلم وتقديره. والمعلم، في اعتقاده، نبيٌّ مصلحٌ. آه شتان، يا والدي، بين معلّم حكيمٍ وبين وأستاذٍ حقيرٍ لا يفهم من الحياة إلا المظاهرَ والانتهازيةَ والتسلّقَ؟ كانَ المعلم في مجتمعنا رجلَ حكمةٍ ومعرفةٍ وحبٍّ. حينَ كنا نراه في الشارع نفرّ لا خوفا منه وإنما احتراما وإجلالاً. والآن صار الأمر مقلوباً. ذاتَ حصةٍ أجبتُ "حمّادي" قائلاً: لقد قرأتُ كتابكَ معلّمي الجليل...". وبّخني على توظيف لفظة "مُعلّمي" مصحّحا، على حدّ فهمه، بكونه دكتورَ دولةٍ من درجة جنرال. وحذرني من وسمه، مرّة أخرى، بالمعلم؛ لأن المعلم يدرسُ الأطفالَ الصغار في مدرسة ابتدائية، بينما يدرس هو طلبة باحثين وأساتذةً جامعيين. لم يكن الأبله يعلمُ بأنّ تدريسَ الأطفال مَهمّةً شاقة لا يقتدر عليها إلا الحكماء. فاته إدراكُ أنّ إنبات الشجرةِ أشدُّ صعوبةً من جني ثمارها.
انتبهت إلى "نبيه" فوجدته يخطُّ على ورقةٍ صفراءَ جملاً مرتبكةً. تذكرتُ يومَ أنقذني من سُعار "حمّادي"، بالجواب الذي كتبه على قصاصة الورق ثم ابتلعها. كان لا يقدّم النصيحة إلا مكتوبة على ورقة مثواها الأخير المضغ والبلع. ولعلّ معاشرته الضباع جعلته ذئباً. كانت الجمل تقدّم حلاً خبيثاً للنجاةِ من الكارثة. ما أن أتممت القراءة حتى كانت الورقة تنزلق في المريء بسرعةٍ فائقة...






حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-