نصوص قصصية | حفلٌ بطوليٌّ

حفلٌ بطوليٌّ

حفلٌ بطوليٌّ

رَحيم دَودي




ثــمَّ جاء يومُ التّكريم فكانَ يوماً خالداً لا يُنسى...
أطلَعَنَا "حمّادي"، بعدَ شهرٍ من إعلان النتائجِ، بخبر التّكريم وزمنه. فقد تقدّم مجموعةٌ من الأساتذةِ، الملتحقين مؤخراً بالكلية، بطلبِ تكريمه في المعهد الدولي للثقافات؛ اعترافاً بمنجزه العلميّ النادر. وهو الأمرُ الذي قبلهُ حمّادي، على مضضٍ، نظراً لالتزاماته الدّولية الكثيرة. بَيد أنّ حيرةً مُبهمةً استشاطت في ذهنيَ: إذا كانَ "حمّادي" قد قَبِلَ، بصعوبةٍ، حفل التّكريم، فَلِمَ يمطرُ الواتسابَ رسائلَ تُلزمنا بضرورة حضور الحفل في مدينة تقع جنوب الوطن. كلّما حاولتُ فهم الرّجل استفحلت حيرتي؛ فرغم عِلْمِهِ بفقرنا وضُعف حالتنا الاجتماعية لا يتورع عن الاضطهادِ والاستبدادِ والقهر. هل يعتبرنا عبيداً؟ هل يعتبرنا كلابا؟

سيقولُ قائلٌ إنّ الرجلّ كان يُرهقنا بشدّةٍ لما في ذلك من خير عميم لنا. ولو فكّر القائلُ قليلاً لفهم أن الأمرَ خلافُ ذلك.


قبلَ الحفلِ بيومٍ سافرتُ بمعية "عيشةَ". ركبنا حافلةً متهالكةً متوجهةً مُباشرةً إلى مدينةِ الجنوب. كانَ سَفْرُنا قطعةً من الجحيم: روائحُ جواربَ وأحذيةٍ كريهة، قشورُ بيضٍ وموزٍ تُرصّع الأرضيةَ، حكاياتُ النساءِ عن الرّجال الخونة، وأغنيةٌ شعبيّةٌ تُحرضُ على الجريمة (شرْكَ گطع). قمنا بكلّ شيء في الطريق. قرأنا قصائدَ شعرٍ، حكينا قصصَ الجامعة، استرجعنا آلامنا الموجعةَ، وغنينا حبّنا الكبيرَ. نامت على كتفي ساعاتٍ. نمتُ على صدرها كيلومتراتٍ. تقيأتْ في الكيسِ مرّات. وأوقفتُ الحافلةَ، مُتشاجراً، لأقضي حاجتي مرّاتٍ. وصلنا على الساعة الخامسةِ صباحاً. كانت المحطّة مزدحمة بالمجانين والمتسولين والمسافرين. سألتني حبيبتي عن الوجهة. فأخبرتها أننا سننتبذُ زاويةً قصيّة ننامُ فيها ساعةً. بعدها، ليقضِ اللهُ بما هو قاضٍ. افترشتُ معطفي الجلدي، أسندتُ محفظتي إلى الحائط، اتكأت عليها، وطلبتُ من "عيشةَ" النوم عَلى امتدادِ المعطف متوسّدة فخذي. غَفتْ زمناً وظللتُ أحرسها من بقايا الظّلامِ. حين استيقظتْ لملمنا حوائجنا، تناولنا وجبة الإفطار واقفين، ثم انزلقنا صوب المعهد الدّولي للثقافات.


كانَ المعهدُ مبنى بالغَ الفخامةِ والروعةِ. تحوطُهُ حديقةٌ مُشجَّرة حوافُها بالنخيلِ وتتوسطها نوافيرُ يتراقصُ فيها الماءُ بانتظامٍ دقيقٍ. هالني عدَدُ السياراتِ المحيطة بالمبنى. خلتُ أن الأمرَ يرتبطُ بتكريمِ جنديّ سَفَكَ دماءهُ دفاعاً عن الوطنِ، أو عالِــمٍ اكتشفَ لقاحَ وباءٍ فتّاكٍ يهدّدُ حياةَ الإنسانية جمعاءَ. وعلى امتدادِ الطريقِ الرئيس، ترى الطلبة والطالبات يتقاطرونَ فرادى وجماعاتٍ والبؤس يتلوى على الوجوه. واكتملَ المشهدُ بوصولِ سيارات النقلِ المدرسيّ مُثقلةً بتلاميذ الثانويات تحسُّباً لعدم امتلاء القاعة بالمعجبين والمحبين. وتُوِّج المشهدُ الأخير بوصول الدّكتور الناقد العظيم "حمّادي" في سيارة الليموزين الفارهة. وقفتُ أتملى المشهدَ ببلادةٍ مستفحلةٍ، مُتسائلاً عن المنطقِ الذي يحكمُ الوعي في بلادنا.


جلسَ الدكاترة المشرفون بشكلٍ نصفِ دائريّ يتوسّطهم العريسُ واضعا قدماً على أخرى. يرتسمُ على وجهه خنجرُ ابتسامةٍ غبيّةٍ لا محلّ لها في مراتبِ المعنى. يتظاهرُ بالجديةِ والسمو بينما داخلهُ يمور بزهوٍ طاغٍ، متوحشٍ، هاذٍ، لا حدّ له ولا ضابط. مُشرئبَ الرأس كنتُ أنظرُ، علّه يبصرني فيرتاح بالهُ لحضوري؛ فــ"حمّادي" يمتلكُ قُدرةً ماحقةً على معرفةِ الطلبة الحاضرين في ندواته. يستطيعُ، ابن علال، ضبطَ حركات متعدّدة في آن واحد: تقديم محاضرةٍ، ومحاصرة الأعداء، ومراقبة الطلبة. آنَ وقوفي لمحني فأشار، خطفاً، بيديه إلى ضرورة التقاط الصور من زوايا متعدّدة وتلطيخ الصفحة الزرقاء بها. تظاهرتُ بعدمِ فهمه تحدّيا له. لست أعرف لِم قمت بهذا. كان ينمو داخلي نوعٌ من الكرهِ تجاهه. نوعٌ من القرف الحاقد والبغضِ المشمئزّ من هذا المسخ. وخزتني "عيشة" مُلتمسةً منّي، بلطفٍ، الوقوف لالتقاط الصور درءاً لثورانه في وجوهنا أثناء مناقشة البحث. وقفت ممتعضاً وجعلت ألتقطُ صوراً تافهةً مقلوبةً لا ذكاءَ فيه ولا احتراف.


بدأت الندوة بعدَ ساعتين من التأخير. انطلق فيها رئيس الجلسة راكضا في كلّ اتجاه وكأنه لم يدرس منهجية المحاضرة العلمية. تحدّث، بشعريّة فجّة، عن الليلة التي سبقت ميلادَ القمر. ذكر، بتفصيل مُمّلٍ، مسارات النشأة والتعليم والالتحاق بالمعاهد العُليا؛ مؤّكداً الروحَ التجديديّة التي غيّرت نظرتنا إلى طبيعة الأدب بفضل اجتهاداتِ "حمّادي". لم يترك أيّ صغيرة أو كبيرة حقيقةٍ أو كذبةٍ إلا صدعَ بها. بعدَ انتهاءِ ماراثون الهذر، قدَّمَ الأساتذةَ المتدخلين، كلّ باسمه وصفته، والحقيقة أن هؤلاء كانوا، جميعا، حفنة من المتملقين، الذين اعتادوا الكذب مُذ كانوا طلبةً ففقدوا إحساس التمييز بين الحق والباطل.


كلّ المداخلات اتفقت على كونِ حمّادي فريدَ زمنه. جدّد الفكر العربّي المعاصر. قوّم الفكر العربيّ القديم. أشرعَ المعرفة الأدبية على الكون العلميّ. نحا بالإنسانِ إلى مرحلة تطورٍ جديدةٍ أرقى من كلّ المراحل السابقة. أنار الطريق وأضاء مسارات السماء. اجترحَ كلّ فريدٍ تليدٍ وكل جديدٍ أصيل، ولو ظللنا نستعرضُ ما اشترعهُ الرّجل لقصّرنا واختزلنا مهما أسهبنا. والحقّ يُقال: إنّ كلّ ما قيلَ كان أقرب إلى فذلكاتِ شاعرٍ مبتدئ منه إلى قول دكتورٍ جامعي يَدَرِّسُ مبادئ العلم المكين. اتكأت على كتفِ "عيشةَ" ونمتُ نومةَ كلبٍ أُشبعَ ضرباً فصار ذيله في لسانه.


  حينَ استيقظت كانت القاعةُ تضجّ بالتصفيقاتِ بينما يقف "حمّادي" كإمبراطور صيني يستقبلُ بيعة الأقاليم. كانت قصاصات الورودِ تتساقطُ من السقف، في جوٍ يزدحمُ بصراخِ تلاميذٍ تشاكلَ المشهدُ، في أذهانهم، بمشهدِ رَفْعِ لاعبٍ كأس دوري الأبطال. كانوا جميعاً يردّدون: ألي- ألي- ألي... ألي حمّادي ألي حمّادي هُو -هوُ- هو... انخرطتُ بدوري صارخاً: "حبيبكم مين"؟ فيردُّ التلاميذ: "حمّادي"... وحبيبكم مين: حمّادي... عشيركم مين: حمّادي... بطلكم مين: حمّادي...نظرتُ إلى عائشة فوجدتها تلوّح بمعطفي مردّدة: حمّادي- حمّادي- حمّادي...

     






حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-