نُصوص قصصية | حكايةٌ ممكنةٌ

حكايةٌ ممكنةٌ

حكايةٌ ممكنةٌ

رَحيم دودي




كانَ مَقصف الكُليّةِ فارغاً هذا الصّباح. اقتعدتُ كرسياً في مكانٍ قصيٍّ حتى أَتَوَارَى عَن الأنظار. لا أحبُّ أنْ يراني طالبٌ أو أستاذٌ فيلتصق بي حتى أُؤَدّي ثمن قهوته. دُرَيهِمَاتِي بالكاد تكفيني: بينَ تنقلٍ وقهوةٍ وسيجارةٍ ونَسْخٍ لا ينتهي. أشعلتُ سيجارةَ الصباحِ لأمنحَ اليومَ مَعناهُ. بدأت أستجذبُ النفسَ العميق مُتحسِّساً الدخانَ وهو يسيحُ في الدّم والبلازما. الدخان والقهوة عشيقانِ أبديانِ يمهدان الطريقَ إلى اليقظةِ الـمُشتهاة. حينَ يمتزجانِ تصطبغ الحقائقُ بدلالاتٍ مختلفةٍ، ويغورُ التفكيرُ إلى مناطقَ متمنّعةٍ على الفكرِ البسيط. تمنحُكَ هذه التركيبةُ، في تماهيها الصّاعق، عمقَ رؤيةٍ وصفاءَ ذهنٍ نادرين.

أخرجتُ كتابَ "مهزلة العقل البشري" لــ"علي الوردي" من محفظتي البالية. فتحتُ الكتابَ حيثُ توقفتُ ليلاً. وبدأت أقرأ بلذّة مؤلمةٍ. عَجِبت من هذا السوسيولوجيّ الذي يتحدثُ عن "حمّادي" دونَ أن يعرفهُ. وتساءلت متحيّراً: "هل يكون "حمّادي" نموذجاً عاماً يتبدى بوجوهٍ مختلفةٍ في كلّ أرجاءِ العالم العربي؟". لم أجد جواباً مُقنعاً. وعزمت الأمر على نَذْرِ شطرٍ من حياتي لدراسة هذه الظّاهرة الــمُعقّدة ومعرفة كيفية تشكّلها واستشرائها. 

     وأنا مستغرقٌ في القراءةِ دخلَ الأستاذ "حُرام" مع طلبته إلى المقصف. كانت علاقتهُ بطلبته وطالباته متميزة جداً. ورغم عِلّاته، وهي علاتٌ لا تضُّر إلا أعداءهُ، كانَ أستاذاً مُقتدراً متمكناً ومالكاً ناصيةَ الشرحِ. أذكر يومَ ولجت محاضرته عن "بناء المعنى في الخطاب الإشهاريّ". أحببت طريقة بنائه الدرسَ وأدواته في عصفِ أذهانِ طلبته ودفعهم للتفكير. يتميّز بقدرةٍ رهيبة على الإنصات، ويتخذُ من المناقشة الواعية آلية في بناءِ المعرفة. جلسوا جميعاً إلى طاولةٍ تتاخم طاولتي. نادى "حُرام" النادلَ ليحضر لكلّ طالبٍ ما يشربه. عندما أحضر النادل المطلوب، ناوله "حرام" ورقة نقدية دون أن يمسك منه البقشيش المتبقي.

والحقيقة أنّ "حرام" كان أستاذاً منصتا للطلبة رؤوفاً بهم. ولم يُسمع عنه قطّ، أنه اعتدى على طالبٍ أو تحرّش بطالبةٍ. كان متخصصاً في استمالة الأستاذات. وهذا أمر لا يهمّنا ما دام مرتبطاً بحياته الشخصيّة. قصدتهُ، يوماً، سائلاً إياه عن أحد كتبهِ. التمسَ مني مرافقته إلى موقف السيارة. فتحَ الصندوق الخلفي الذي كان يتجشأ كتباً، ثم قال بلطف: "هي ذي كتبي خذها، وخذ ما شئت من الكتب الأخرى". كلّ هذا جعلهُ محترماً في عينيَّ، وكم منّيتُ النفسَ لو أنــني التحقت بفصلهِ بذلَ التحاقي بــالعالِــمِ "حمَّادي".

غير أنّ هناكَ ظاهرةً غريبةً، موغلةً في الالتباس والغموض تَــجمعُ "حُرام" بــ"حمادّي". ظاهرةٌ لم أستطعَ إدراكَ خباياها على نحو شفيفٍ؛ فأينما توجّه "حُرامَ" شوّه صورة "حمّادي": سواءٌ في محاضراته، أو في لقاءاته، أو في المقصف. ونفس الأمــرِ يقومُ بـه "حمّادي"، أينما حلّ وارتحلَ: نكّل واستنقصَ واستهزأَ. ولعلّ حادثةَ الندوةِ غيضٌ من فيضِ فضائحِ هاتين الشخصيتينِ المتناحرتين. بدأت أستجمعُ كلّ ما يقولهُ الواحدُ عن الآخر. رتبتُ الأقوالَ والحكايات حسب نموّها السّياقي. طعّمت التصور العام بما يروج على لسان أساتذة وطلبة الكليّة. وعدتُ إلى مناطقَ سرديةٍ واشيةٍ بافتراضاتٍ قوية عن أحداثِ الماضي:
وُلِــدَ الرجلانِ في قرية نائيةٍ بشمالِ المغرب. ينتميانِ إلى نفسِ الدّائرة الثقافية. بيدَ أنّـهما يختلفان في الطبقة الاجتماعية. ينتمي "حمّادي" إلى طبقة ثريةٍ تستقي ثراءها من زراعة "القنب الهنديّ". أما "حُرام" فينتمي إلى عائلةٍ فقيرةٍ تكابدُ الأمرين لنيلِ لقمةِ عيشٍ بسيطةٍ؛ الأبُ "خمّاسٌ" والأمُّ حمّالة "البعر". لم يكن "حُرام" يقف مكتوف الأيدي أمام واقعهِ المفترس، بل كان يدرس بجدٍّ، ويعملُ مع والدهِ في أوقاتِ فراغه. كلّ هذه المعاناة عركتهُ فجعلت منه فتى شقياً، قوياً، وماكراً. في المقابل نشأ "حمّادي" في منزلٍ تهيمن عليه النساء. كل إخوته بناتٌ. عماتهُ لم يتزوجن لفرطِ جمالهنّ. فترعرع داخل فضاءٍ تستحكمُ فيه النميمة والغيبة وكمائن النساء. بهذا، تحوّل إلى نسخةٍ أنثويةٍ مطورةٍ عن أصلٍ واحدٍ. حتى حركاته وتصرفاته كانت تكشفُ عن نزوعٍ نحو الشيطنة المتخفية والخائفة في آن واحدٍ.

كان زملاءُ القسم ينادونه "سُهيلة" مُتندّرين بأسلوبه المتأنثِ في اللباس والمشي والقول. كانَ يُتقن أمرين اثنين: تحصيلَ نقطٍ ممتازة وإيصال الأخبار إلى المعلمة "نعيمة الغليظة"، التي كانت تتلذذ بأخباره وتعتبره تلميذها الأثير. لم يكن يلعبُ مع الذكور. إذا بحثت عنه وجدته يتقافز مع مريم أو يتناتف مع خديجة أو يتشاتم مع فاطمة. وبعدَ سلسلةِ المعاركِ يتجه نحو المعلّمة "نعيمة" هامساً في أذنها: "أستاذتي الحبيبة: إن مريم وخديجة وفاطمة وصفنكِ السمينةَ المقرفة". تنتفخُ أوداجُ المعلّمةِ وتحملُ عصاها مُنتظرةً قدوم الشقيات الثلاث لتجعلَ ظهورهنَّ أملسَ من بطونهنَّ.

ويَحكي "حُرام"، همزاً ولمزاً، قصةً غريبةً عن واقعةٍ جمعت تلاميذ قسمه بــ"حمّادي". ذات مساءٍ، أثناء خروجهم من المدرسة، اعترضوا طريقه، واقتادوه إلى خلاءٍ بعيد. كانَ "حمّادي" يبكي ويصرخُ بكل ما تختزنه حباله الصوتية. لكن الأشقياء كتموا صوته راكضين. حين وصلوا إلى المكان الموعود فكوا قيده متضاحكين. ثم بدأت لعبة التندُّر. وقفوا منتظمينَ في خطّ مستقيم. فأمر "حُرام" جماعة الصبيان، بمن فيهم "حمّادي"، أن يُخرجوا الحلزونَ من كهفه. فعلوا ذلك جميعاً إلا "حمّادي". وهنا ضحك "حُرام" مؤكدا للأشقياء صحّة زعمه عن كون "سهيلة" لا تمتلك حلزوناً يغور وينتعظ. أمروه مرّة أخرى بتنفيذ الأمر. كابر وامتنع. فأمسكوه من يديه ورجليه وطرحوه أرضا، وقام "حُرام" بنزع سروال "حمّادي" كاشفاً عن حلزونٍ صغير رخو. حينَ رأوا عضوه الصغير تضاحكوا حتى ماعت بطونهم وفروا كثعالب الصحراء.

في المساء انقلبت القرية رأساً على عقبٍ. اتجه "علال البْهل"، والدُ "حمّادي"، إلى الدرك الملكي، مُسجلاً شكاية ضد ولاد الحرام على حدّ تعبيره. أخبر "علال" قائدَ الدرك الملكي بما وقع وما لم يقع، مؤكداً أن أولاد الحرام اغتصبوا ابنه. أخبرهُ قائدُ الدّركِ الملكي بأنّهم سيتخذون الإجراءات اللازمة لكي يتأكدوا من صحّة الواقعة. ودعا الرجلَ إلى التلبُّث والتروي وعدم إشاعة الخبر حافظاً عرضَ ابنه فقد يكون الأمرُ مجرّدَ حادثة عارضة. استفاق "علال" من شرودهُ فقد كان يصب الوقودَ على فضيحةً كانت ستلتهمه من كلّ جانب.

عادَ إلى المنزلِ كفرنٍ ينفث ناراً، بحث عن ابنه، وجده نائماً في غرفة عمته، فانهال عليه صفعاً وركلاً ولكماً، صارخاً أنّ الناس يملكون أولاداً في حين أنه اُبتليَ بهذه النعجة التي لا تستطيعُ الدّفاع عن نفسها. حاولت أختهُ منعه من ضرب الولد الصغير. لكنه اهتاجَ في وجهها موبّخا بأنّه يجعل من "حمّادي" رجلاً، وأن لا دخلَ لها في مسائل الرجالِ. لم تستسغ الأخت اهتياجَ الأخ في وجهها فصرخت مذكرةً الأبَ بالزمن الذي كان فيه دمية بين شباب القرية. فاشتعلت معركة حامية الوطيس انتهت فجراً بشعرٍ منتوف ولحم مقضومٍ وأسنان مثلومة ومصالحة بإشراف فقيه المسجد الكبير.

في الصباح أعلم رجال الدرك "علالَ" بأنّ الحادثةَ ترتبط بشغبِ تلاميذ المدرسةِ، وأنها لم تصل حدودَ الاغتصاب والضرب. كلّ ما في الأمر أن هؤلاء الأشقياء جعلوا يحسون بذكورتهم. لهذا، قاموا باستدعاء آبائهم موبخين إياهم على سوء تربيةِ أبنائهم ومنذرين إلى ضرورة عدم تكرار الأمر وإلا فإنهم سيسجنون مكانَ أبنائهم. تطامن "علال"، وعاد إليه انتفاخه وذهب ليمارسَ هوايةَ توبيخ العمال والمساكين.

كانت هذه نتفاً من حكايةِ رجلين يتحّكمان في قيادة الكليّة. رجلان يعكس كلّ منهما بنيةً نفسية وفكرية خاضعةً لشروط موضوعية وذاتية متشابهة ومتباينة في آن واحدٍ.

أعدتُ الكتابَ إلى المحفظة البالية. أدّيتُ ثمن القهوة والسجائر. نفضت عني غبار التفكير. خرجت من المقصف باتزان. نظرت إلى السماء وقلت: يوماً ما سيصير العالــمُ أجملَ وأصفى... 
 

تعليقات