عودةٌ مُعَاقَةٌ
رَحيم دَودي
فرّ "حمّادي" خوفاً على نفسهِ من انتقال العَدوى الكاذبة إليه. أطلقَ قدميه للريحِ كبطلٍ أولمبيٍّ متخصصٍ في جميعِ أصنافِ العدو. كانَ منظري وأنا أركضُ، دون أن أدري، وراءَهُ نَظَيرَ دجاجةٍ تتطايرُ هرباً من ذئبٍ طواهُ الطّوى. لـم أكن أرى ما حولي. كانت وجوه الناس تتداخلُ في ذهني كلوحة سريالــيّة رسمها رسّامٌ فاشلٌ. حينما استعدتُ صبيبَ الإدراكِ وجدتُني قربَ مجزرة "العياشي الذبّاح"، رأيته يمسكُ ساطوراً أُسطوريّاً راكضاً نحوي بسرعةٍ. أسندني، بلطفٍ، إلى شجرةِ قيقبٍ تُقَابِلُ مجزرته. ثم قال بغضبٍ يفورُ دماً: "مالك أ"عيشة" شنو طاري. شكونْ لي تَيجَري عليك نجزرْ مُّـــو دبا؟". أخذَ "العياشي" يضربُ صَدْرَهُ بيدٍ ويلوِّحُ ساطورهُ بأُخرى صارخاً وسطَ الشارعِ: "ياك قلت ليكِ تزوجي بيَّا "أعيشة"، وأجي تشوفي... أنا والله حتى نرحّل حُومة على قُبْلْك...".
كانَ "العياشي" في هذه اللحظة كممثلٍ مغربيّ يتسوّل إعجابَ المشاهدين في فيلم رديء. غير أنّني كنتُ أُقَدّر صدقَ "العياشي" ووضوحهَ، فهو يشبهُ ساطورهُ؛ إذا أرادَ شيئاً قَصَدَهُ رأساً بلا لفٍّ أو دوران. وهو في هذا النهج الوجودي أفضل من "حمّادي" المثقف.
مُلقًى على ظهرِي كُنت أَغْلِي ضَحِكاً مما حَكتهُ "عيشة" العاثرة. خِلْتُ أنَّ الأمرَ يتعلّق بقصة تُروى، حصراً، في فيديوهاتٍ تتناسلُ على صفحاتِ "اليوتيوب". كلّما عاودتُ النّظرَ إلى عينيْ "عيشتي" تحولتُ إلى كتلةٍ مكوّرةٍ تتمايعُ ضحكاً. وبّختُ "عيشة" -مُكابراً لجمِ خيول الضحك الراكضة في كلّ الاتجاهاتِ- على عدمِ إخباري بالحدث آن وقوعِه. نظرت إليَّ نظرة زاجرةً، مُسْتَصْغِرَةً، وردّت بشدّةٍ: "ماذا كنت فاعلاً لو أخبرتك؟ أَكُنْتَ سَتضربُ "حمّادي" على مؤخرته أم كنتَ ستقولُ له: ما أعظمكَ أستاذي المفضال على أفق الحداثةِ الذي تعتنقهُ؟".
تغامزنا بمكرِ العشّاق وتعانقنا كما يتعانق في اللغة اللام والألف. انتهت جولةُ الحبّ بعودتنا فرحين إلى الهامشِ المنبوذ. عَمِدتُ إيصالها إلى كوخها أوّلا، ثم مضيتُ نحو أحلامِ القصدير. وصلتُ وأذانَ العشاء فألفيتُ أمّي تعدُّ الشايَ على نارٍ هادئةٍ وهي تُغنّي عن الوحدة والألم والحبّ، خلت، حينئذ، أن الشاي يُطبخ على أغنيةٍ لا على نارٍ هادئةٍ. قبّلت يدها اليُمنى بحنو وأعدت لها عشرين درهما التي أعطتني صباحاً. ابتسمتْ بخبثٍ جميلٍ متسائلة بإيماءةٍ من رأسها عن مآل الجولة. فابتسمتُ نافياً ظنّها ومؤكداً أنّها كانت جولةً متميّزةً. لقد كانت أمّي امرأةً من وردٍ وحبٍّ وجمالٍ وذكاء. وكنتُ وَسِيمَهَا الوراثَ عنها كلّ السّمات ولم أعرف أباً يوماً سواها: كانت، بالنسبة لي، كلّ شيء: أمّاً وأباً وأختاً، وأخاً...
مرّ شهرٌ ونيّفٌ انهمكتُ خلاله بالعملِ والدّراسةِ. أشتغلُ صباحاً حمّالاً في سوق "الجملة" مُقَابِلَ خمسينَ درهماً. وأُعِينُ أمّي مساءً في جلبِ الماء من "السقّاية". وأستذكرُ ليلاً؛ والاستذكارُ معناهُ: التفرُّغ كليًّا لقراءة كُتبِ "حمّادي" وتحريرِ أبحاثٍ مُعتبرةٍ عنها على حسابِ باقي الموادِ. حينَ انتصفَ الليلُ رنّ الهاتفُ. داهمني صوتُ "عيشة" على الخطّ متوتّراً، متحيراً، خائفاً: "لقد نشرَ "حمّادي" إخباراً عبر الواتساب نصُّه: إحضار كُتبهِ مدموغةً بالاسم الكاملِ وقد خُطَّ بقلمٍ جافٍ. كَمَا أنّـه ينصُّ على ضرورةِ إحضار آخر طبعةٍ من كتبه، مُرفقةً بالبحثِ الذي أُنْجِزَ عَنْهَا، وملخّص البحث، فغداً امتحانٌ شفويٌّ حاسمٌ".
سالَ دماغي حيرةً وذهولاً من أذنيَّ. غابَ العالِـمُ شهراً ونطقَ كُفراً. تساءلت: أي نوعٍ من الكائنات في سلّم التطور البشريّ يكون: هومو إريكتوس (الإنسان المنتصب) أم هومو سابينز (الإنسان العاقل) أم هومو زِبِيلُوسْ (الإنسان الأَزبالي)، لست أدري؟ عدتُ إلى الخطّ مُطمئناً "عيشة" بصوت زائفِ النّبر: "لعل الله يُحدث خيراً يا "عيشتي"، لا تتوجسي خيفةً منهُ، سنسلكُ كما سلكنا سابقاً." لكن "عيشة" باغتتني سائلة: "وكيفَ أُداري فضيحةَ البحث والقيء والهروب؟". فأجبتها بصوتٍ حاسمٍ: "تناسي الحدث...وكأنّ شيئاً لم يقع...فإذا تطاولَ مُستفزاً؛ أخرجي سَكَاكينكِ وحُزّيِ عنقهُ من الوريدِ إلى الوريدِ." ابتسمتْ بوجلٍ وأنهت المكالمة بالدّعاءِ والترجي.
يومَ الامتحانِ حدثت مُفاجأةٌ نادرةُ الوقوعِ ستسجّلها موسوعةُ جنيس. لقد جاءَ "حمّادي" باكراً؛ أقصد جاءَ قبل بعضِ طلبته، مُغلَّفاً في بذلته الرسميّة السوداء. وقفتُ جَنْبَ القاعةِ بمعية صديقاتِ وأصدقاء الفصل. كانَ عطرُ "حمّادي" يهيمنُ على امتدادِ ممرّ الطابقِ العلويّ. استرقتُ النظرَ بسرعةٍ. وجدتهُ يتصفّح الكتابَ الألمانيَّ مرّة أُخرى. تطفرُ من شفتيه ابتسامةُ الكابتن ماجد حينَ يلمحُ فجوة في المرمى. وصلت "عيشة" صحبة مريم ورانية وإيمان. ألمحتْ بأطراف لحظَيْهَا إلى الزاوية الفارغةِ، ففهمتُ أنها تريدُ الحديث إليَّ على انفرادٍ. دار بيننا حوار قصير حذرٌ: سألتني عن إنهاء البحوث. فأجبتها أن ذلك لا يعني شيئا عندَ "حمّادي"، فقد تكونُ متميزاً فتصبحُ مُتدنيا. وقد تكونُ مُتدنيا فتصبح، بقدرة "حمّادي"، متميزاً. سألتها عن نفسيتها، فقالت إنها خائفةٌ ومرتكبةٌ. طمأنتها ونصحتها نصيحة الليلة السابقة.
فُتحَ الباب فأطلَّ "حمّادي" برأسٍ كَسَتْهُ الحلفةُ بعدَ زمن البقعِ الخضراءِ. أمرنا بالانتظامِ مثنى مثنى. كان يستعيدُ من خلال هذا الفعلِ ذكرياته حينَ كان مُعلماً في الجبلِ. ذكرياتُ الشاي والأرغفة وعصا زيتون "الـمُتلوّطة" التي تسلخُ الجلدُ وتكشفُ العظمَ. وهذه حكايةٌ يرويها "حُرام" والعهدةُ عليه فيما يقول ويروي. حين انتظمنا كما أمر. نادى عليَّ أولا متعمِّدا نُطق اسمي بشكل خاطئ قائلاً بلا مبالاةٍ:
- فليتقدّم الطّالب "نبيح العادي" أولاً، يليه كلّ الطلبة حسبَ نظام ترتيبكم في اللائحة، وفي الأخير تلج الطالبات حسب نفس الترتيب، وإذا دخْل شي حدّ بلاصة صاحبو راه ما يلوم إلا موّ. خذوا الكتب العلمية في اليد اليُمنى والأبحاث في اليد اليُسرى...والله يعميها لشي كلب فيكم...
تبعتُ "حمّادي" محترساً استثارةَ الانتباه إلى فعلٍ ما. كنتُ أرقبهُ من وراءِ ظهره وهو يختالُ بعنجهية متقيّحة. جلسَ على كرسيه فلم أفعل مثله. تشاغلَ عني وتركني واقفاً دقيقتين كاملتين. لم أجلس. مَنْ عاشرَ الذئب ثلاثة أيامَ صارَ قرداً. فجأة تظاهرَ بأنه رآني تواً فبادر آمراً:
- اجلس، اجلس، اجلس، لا باس عليك؟ بخير؟ ارتحتم هذا الشهِيور. إيوا قريتو شويا؟ تعلمتوا شويا ديال اللغات الأجنبية. راه ضروري اللغات. أنا ما كنشرف إلا على البحوث لي كتعتمد على لغات أجنبية. إيوى ورينا شنو درتي في هذا الشهيور.
لم أعرف أيّهما ارتاح أكثرَ: ذاك الذي قضى الشّهر في إنجاز العقوبة (قراءةُ كتب "حمّادي" عقوبةٌ) أم ذاك الذي أخذ إجازةً صيفيةً في فصل الشتاء؟ مددتُ له الكتبَ فجعلَ يتفحصها بعين حرفيٍّ يهوديٍّ. يتأكّد من الطّبعة والاسم، ولا يُغفل تشمُّمَ الحبر لِيَتَثَبَّتَ من ماهيته: أحبرٌ خالصٌ أم قلم رصاصٍ؟ عندما أنهى تفحّصه فشا في وجهه ارتياحُ مُلغز. ظننت أنه سيبدأ بابتكار أسئلته الفلكية التي صرت شاطرا في الإجابة عنها، بَيد أنه لم يسألني عن الكتب بل عن "عيشة":
- صراحةً أنتَ طالبٌ مقتدرٌ، ويعجبني التزامك العمليُّ والأخلاقيُّ، ويَا لِيتْ كُنْ كان جميع الطلبة بحالك؟ شحال نحطو هنا؟ شحال نحطو هنا؟ غير قول بلا ما تحشم. غادي نحطو، على بركة الله، شي 17 مبرعة. مزيان دبا. مزيان دبا. أ.أ.أ.أ.أ مزيان.
شكرتهُ مغدقا عليه أرقى الأوصاف والنعوت. ومؤكّدا رُقيه الأخلاقي والمعرفيّ. وإنّه لشرف لنا أن نكون طلبته وأولاده البررة. لكنه قاطعني سائلا:
- قولي أسي "نبيه" واش الطّالبة "عيشة" مريضة مسكينة. واش عندك شي خبار طَمْأَنّي. أ.أ.أ.أ.أ... راني شوفت وجهها صفر وغير كتزيد وتخياب...أأأأأأأ.. كتزيد وتضعاف...بقات فيّ والله العظيم؟؟
كانَ "حمّادي" يتظاهر بالشّفقة والرحمة. والحقيقة أنّ تَظَاهُرهُ كانَ يبدو فجًّا، مُصطنعاً، زائفاً. شرعتُ أفتش عن جواب مقنعٍ يغلقُ آفاقه الحداثيةَ بشكلٍ نهائي. اخترعتُ قصة من قصةٍ وقلت:
- صراحة هناك الكثير من الأخبار، أستاذي المفضال، فهناك طائفةٌ تقولُ: إنه في بدايةِ العطلةِ ظهرت على "عيشة" علامات الحمل من قيءٍ وقرفٍ ودوخةٍ، وعندما انكشفَ الأمرُ، خرجَ أخوها الجزار، حاملاً ساطوراً، يبحث عن المغتصب. طائفة ثانية تقولُ: إنها مريضةٌ بالسلّ والبلهارسيا؛ وهذا القول إلى الحقّ أقرب. بينما ترى طائفة أخرى أنها مغرمةٌ بأحد الأساتذة الذين يُدرّسُونها لكنَّه لم يُوف بوعدِهِ بعدَ المضاجعة....
اختلطت ملامحُ "حمّادي" على صفحة وجهه. تجعّد وجهه وأَمْسَى كمنفاخ الأكورديون يتمدّد ويتقلصُ دونما ضابط. نسي نفسه تماماً. والغريب أنّ يديه كانتا تتحركانِ دون وعي. لملمَ الكتبَ والأوراق بذهنٍ غائبٍ. نظرَ إليّ موبخاً إيايَ على إمعاني النظر فيه، وأمرني بالخروج. عندما همَّ الطالبُ الموالي بالدخول كان "حمّادي" في الطابقِ السّفلي. لم ندر كيف فعلَ هذه القفزة الهرقلية. في التفاتته الأخيرة نحونا قالَ بصوتٍ مُختنق: لديّ اجتماعٌ طارئ مع الوزير نستأنفُ الامتحانَ فيما بعد.
أيقنتُ، حينها، أنّنا لن نرى "حمّادي" إلا في آخر الأسدس. أمسكتني "عيشة" من يمناي، مستفسرةً عن سببِ انصرافه على هذا النحو. قلتُ لها: ستحصلين على نقطةِ امتيازٍ لأنَّ أخاكِ جزارٌ يبحث عن مُغْتَصِبِكِ. نظرت إليّ ذاهلةً. نَظرتُ إليهَا منتشياً، ومضينا كحبيبين لن يموتا أبداً...