نُصوص قصصية | الدّكتور حمّادي البهْلْ

الدّكتور حمّادي البهْلْ


الدّكتور حمّادي البهْلْ

رَحيم دَودِي




كان لهذا الصباح طابعٌ خاصٌ عند حمّادي. استيقظَ باكراً كما برمجتهُ العادةُ. ألقى نظرةً على عددَ "اللايكاتِ" المبثوثة في صفحته على الفيس بوك. أحسّ بفخر ما بعدُه فخرٌ. كيفَ لا يحسُّ بالفخرِ وهو الأكاديميُّ الفذُّ الذي يحملُ همّ الثقافة الإنسانيّة. أما التعليقاتُ المُدرجة أسفلَ تدويناته العبقرية؛ فجعلته يرتفعُ عن وجوده الإنساني ليغدوَ، نتيجة هذا الإحساس الرفيع، صنفاً آخر من الكائنات: وليعذُرنا القارئ عن عجزنا إيجاد تسميةٍ لهذا الكائن. فقواميس اللغة ضيقةٌ، وألفاظ المعاجم فقيرة، والمعنى محدودُ الأفق؛ محدودٌ جداً.

اتجه صوبَ المرحاض باعتدادٍ وفخرٍ. فهو لا يتغوّط كالبشر. لا يتبوّل مثلهم. ليس له وقتٌ يهدرهُ في هذه الأغراض الحيوانية الدنيئة، المقرفة. إنّه إنسانٌ كامل. بالمعنى الفلسفي للكمال. يفهم إنسانيته على نحو شديدِ العمق. لهذا، يكتفي بتصريف فضلاته ضُراطاً يستلذُّ تشمّمَه. ضراطهُ ضربٌ من الفكر الخالص. نظر إلى وجهه في المرآة، فهاجس، في لحظة اليقين، نَفْسَهُ: "لا ينبغي لكائنٍ راقٍ مثلي أن يمشي على الأرض. الأرضُ خُلقت لهؤلاءِ المعطوبين، أما أنا فمعدني سماويّ صافٍ، وفكري شمسٌ تضيء الجميع. إني، والله العظيم، لكائنٌ متفرّد ومتوحدٌ في روحي وفكري". بعد تأمُّله الفريد في ذاته مضى إلى غرفته. ارتدى ملابسه بأناقة ديكٍ حبشيٍّ. لم ينس تقبيل ابنته وابنه قبل ذهابه للعمل. اعتمل داخلهُ إحساسٌ بالحنان والحبّ إزاءهما. وعاودته، مرّة أخرى، هزّات الفخر والاعتزاز. لا يَلِدُ الملاك إلا ملاكاً أو قمراً. 

في الطريق إلى العملِ خامرتهُ أفكارٌ متضاربةٌ، متنافرةٌ، ومتشابكةٌ. تخلّص منها برمشةِ عينٍ سريعةٍ. ثم استعادَ دفقَ الفخر والاعتزاز. فبعدَ نصفِ ساعةٍ سيقدّم محاضرةً عن السّرد والمعنى. في هذا الباب، هو يؤمن، جرياً على عقيدة أجداده النّقاد، بأن السردَ يوجدُ في الحلزون وفرس النهر وثقب الأوزون. بدأ ينظّمُ أفكارهُ بشكلٍ دقيقٍ. يصفيها من الشوائب. ويترسّمها وَفق انتظامها النظري الأصيل. حدّد نقطة البداية ورصدَ تفرعاتها وتوسّم النهاية بوعي عالمِ الفيزياء. لكنهُ سرعان ما تردّد هاجساً في نفسه مرة أخرى: "إذا شرحتُ لهؤلاء الحمير (يقصد طلبتهُ) النظرية وفهموها فإنه سَيتَعَالمُون عليّ وأنا الأبُ الكبير. لا، لن أشرحَ لأولاد الحمير. فليبق الحمارُ حماراً. بهذه الطريقة، أضمنُ مكانتي وأستأثرُ بالمجال". هكذا تغيّر مسارُ المحاضرة من شرحِ النظرية إلى تعميتها وإعتامها. والحقُّ يُقال: إنّه كانَ ماهراً في التعمية والتضليل وممارسة الكذب المنظّم.

دخلَ القاعة بتجهمٍ مرتجلٍ. نظر إلى طلبته نظرةَ استقراءٍ متلصص. يحاولُ معرفةَ ما يجولُ في أذهانهم. كانَ مريضاً بمعرفةِ أفكار طلبته عنه. لم يكن يرتاح إلا عندما ينحني طلبته له تملقاً وتزلُّفاً. كأن يقولَ أحدهم: "أستاذ، كنتَ متميزاً في ندوة المكتبة العالمية، وأفكاركَ فتحٌ علميٌّ غير مسبوق". أو أن يقولَ آخر: "مقالكَ، يا دكتور، حدسٌ علميٌّ بخارطة جميع العلوم مُستقبلاًّ". هنا يرتاحُ حمّادي ويرى في طلبته نموذجاً أخلاقيا يُقتدى به. وبموجب هذا الفعل يرفعُ طالباً ويخفضُ آخر. الاختلافُ مذمومٌ في عقيدته. الولاءُ أولاً أما الأداء فمسألةٌ نسبيةٌ متغيرةٌ وليس معياراً قويماً للتقويم. وهو بهذا النهج يكون قد اجترحَ معياراً بيداغوجيا جديداً في التقويم...

بدأت الحصةُ على الساعة الثامنة وخمسٍ وخمسينَ دقيقة. أي بتأخر مقدراهُ خمسٌ وخمسون دقيقة عن الوقت القانوني. وضعَ حمّادي أوراقهُ على المكتب وطفقَ يُملي ويُملي ويُملي. كانت أصابعُ طلبته تتراكضُ مُلاحِقَةً بريق الجملِ المقذوفة من شفاهه المغسولةٍ ببصاقٍ أصفرَ. وكلما أنهى فقرة أمرَ طالباً بقراءتها. فتضيع المحاضرةُ في تصحيح أخطاءِ القراءة وتقريع الطلبة الذين لا يحسنون القراءة، متسائلاً عن كيفية نجاحهم، علماً أنه القائم بأمر الامتحان الكتابيّ والشفهي. بعدَ التقريع والتوبيخِ يحكي نكتةً سمجةً ويعودُ إلى الإملاءِ مبدعاً أشكالاً لا حصر في إبداء القول منفوخاً. وعندما يرهقه الإملاءُ يبتكرُ سؤالاً من بنات جنونه. كأنْ يسأل عن البنية العميقة عند "قريماس": أ هي عدمٌ موجودٌ أم وجودٌ معدومٌ؟ وهل يمكن الإمساكُ بالمجرم في الشارع بعدَ أن ارتكب جريمة في نصٍ سردي متخيلٍ؟ وهذه، حقاً، أسئلةٌ مُسعفةٌ على فهم كلّ الظواهر الإنسانية؛ ولستُ أدري لمَ لمْ تفدْ منها مختبرات البحث العلميّ؟

في نهاية الحصة يفردُ حمّادي خمس دقائقَ للمناقشة. سأله الطالبُ "نبيهُ" عن توظيف رمزية الأرقام في إحدى الرّوايات، علّها روايةٌ عرفانيةٌ إنْ صدقت ذاكرتي، مستفسراً عن مغزى هذا التوظيف. يا لها من دورةٍ فلكيةٍ تلك التي قام بها حمّادي في تتويه الطالب السائل: بدأ الحديث عن الأرقام عارضاً حياة الخوارزمي وعشقه الجارف للبطاطس. ثم ساحَ مُنَظِّراً للأرقام وأشكال رسمها. فالرقم، في علمه الخالد، رقصةُ دجاجة أو بغلٍ فوق قمة جبل أقرع (يمكنكَ مشاهدةُ الرقصة بسهولة، من أسفل الجبل، بحكم انكشاف الشّاشة). ويمكنُ أن نعيش بدون أرقام؛ لأن الأرقام تسطِّح الفهم. ولا بدّ أنّ هذه الشطحات التنظيرية عن الأرقام تفصح عن جهل عريق لدى حمّادي بمادة الرياضيات حينَ كان تلميذاً. وفي الأخير اكتمل مشهد الدورة الفلكية بالحديث عن الرواية التاريخية عند الكاتب المغربيّ "بنسالم حميش". لم يكن حمّادي يعرفُ -لأنّه يظن نفسه القارئ الوحيد في العالم- أنّ "نبيهَ" قرأ كلّ أعمال بنسالم حميش. أذكرُ في هذه اللحظة أنّ بصاقَ "نبيه" كان يتصاعد من الفم إلى العينين أمواجاً أمواجاً. فتحتقن العينان وتحمرّ عروقهما. يغيبُ السوادُ وتتفجرُ الحمرةُ. وما هي إلا برهةٌ قصيرة حتى انقلب الوجه إلى ابتسامةٍ مخنوقةٍ. ينصاع نبيه لفداحة المشهد قائلا: "فهمت...لا فُضّ فوك أستاذ...". نظرَ حمّادي إليه مُتعالياً، مُتكبراً، رافعا عنقه كما تفعل نعامةٌ تتوسط شعباً من الفئران، ثم ضرط: "خصكم تقراو ...خصكم تقراو...".






حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-