نظريات التعلم

نظريات التعلم

نظريات التعلم


هي مجموعة من النظريات التي ظهرت بداية القرن العشرين وبقي العمل على تطويرها وإغنائها حتى وقتنا الراهن، وقد اهتمت بالتعلم باعتباره فعلاً يُمكن دراسته وتتبع أثره، لكن كل واحدة منها تناولته من زاوية معينة.
وسنتناول في هذا الجانب، بشكل مقتضب، نظريتين علميتين أثرتا بشكل واضح على مسار الدراسات العلمية حول التعلم، وهما علم النفس الفارقي ونظرية الذكاءات المتعددة؛ بالإضافة إلى خمس نظريات تربوية تمثل أهم نظريات التعلم التي عرفتها الساحة التربوية منذ بداية القرن العشرين، وهي السلوكية والجيشطالتية والبنائية والسوسيوبنائية والمعرفية.



١. النظريات العلمية للتعلم


علم النفس الفارقي

يهتم علم النفس الفارقي بوصف ظاهرة الفروق الفردية بين الأفراد والمجتمعات وتفسيرها، والوقوف على أسبابها وكيفية بروزها والعوامل المؤثرة فيها، عن طريق استخدام وسائل علمية وموضوعية مثل الاختبارات والمقاييس السيكولوجية لقياس الذكاء والقدرات العقلية المختلفة. فهو ينطلق من حقيقة مفادها أن كل إنسان له خصوصيات تميزه عن باقي أفراد جنسه. وقد بينت العديد من الدراسات النفسية خصوصاً في مجال علم النفس المعرفي، أن الأفراد يختلفون في كيفية التعلم، ويتميزون بأساليب معرفية وإيقاعات تعلمية مختلفة حتى ولو توفروا من الناحية البيولوجية، على نفس الرصيد الوراثي. ومن هذا المنطلق، يجب أن تكيف وضعيات التعلم لتأخذ في الاعتبار خصوصيات كل متعلم وميوله وحاجاته واتجاهاته، واختلاف إيقاعات تعلمه.




نظرية الذكاءات المتعددة

توصل الباحثون في مجال الاختبارات التي تقيس تجليات الذكاء في الإنجازات، إلى نتائج تؤكد توفر الأفراد على ذكاءات مختلفة ومتعددة، وقد حصروها في ثمانية أنواع، ومنهم من تجاوزها إلى عشرة، وهي :

• الذكاء البصري/الفضائي : ويتمظهر في القدرة على فهم واستيعاب الأشياء المرئية، حيث يهتم المتعلم بخلق صور عقلية محسوسة للتعلم، وبذلك تبرز قدرته على الاستيعاب من خلال الصور والخرائط والأفلام والشرائح التعليمية.

• الذكاء اللفظي/اللغوي : ويتمثل في القدرة على استخدام الكلمات والألفاظ والمعاني وتسلسل الكلمات، وفي مهارتي التحدث والكتابة، وكذا القدرة على تعلم كلمات وألفاظ وتعابير جديدة بكل سهولة.

• الذكاء المنطقي/الرياضي : يبرز هذا النوع من الذكاء في القدرة على استخذام السبب والمنطق والأرقام، حيث يهتم المتعلم بأنماط التسلسل المنطقي والرقمي لإيجاد العلاقات والتمفصلات بين المعلومات. كما يهتم بإجراء العمليات الحسابية وأداء التجارب الرقمية.

• الذكاء الحركي/الجسدي : ويتجلى في القدرة على التحكم في حركة الجسد والتعامل بمهارة مع الأشياء المحيطة، والتعبير عن النفس عن طريق الحركة، فضلا عن امتلاك القدرة على التوازن والتوافق بين العين واليد.

• الذكاء الجماعي/التفاعلي : يتمثل هذا الذكاء في القدرة على فهم الآخرين ومشاركتهم، حيث يحاول المتعلم أن يرى الأشياء من وجهة نظر الآخرين للتعرف على نمط تفكيرهم وفهم مشاعرهم، فضلاً عن استخدام اللغة اللفظية وغير اللفظية من أجل إقامة علاقات ووسائل اتصال مع الآخرين.

• الذكاء الشخصي/الذاتي : يبرز الذكاء الذاتي في قدرة المتعلم على فهم الذات والتعرف على كينونتها، وفهم المشاعر وتعرف مكامن القوة والضعف لديها، واتخاذ القرار المنطلق من حاجاته ومشاعره وأهدافه الذاتية.

• الذكاء الموسيقي/النغمي : وتجسده القدرة على أداء وتقدير الموسيقى، حيث ينصب اهتمام المتعلم على الأصوات والألحان والأنماط الموسيقية، فيستجيب للموسيقى إما بتقديرها أو انتقادها.

• الذكاء الطبيعي : يتمثل هذا النوع من الذكاء في قدرة المتعلم على تعرف محيطه الطبيعي، وتقدير وفهم العالم والأنماط والتفاعلات المختلفة التي يتميز بها هذا المحيط.

من هذا المنطلق، فإن التمييز بين المتعلمين لا ينبغي أن يتأسس على نسبة ذكائهم خاصة المرتبط بالجانب المعرفي، وإنما على نوع الذكاء الذي يتميزون به؛ بحيث تؤخذ بعين الاعتبار مختلف هذه الأنواع أثناء إعداد وضعيات التعلم لتشمل جميع المتعلمين. وقد دعا "كَردنر"، في هذا السياق، إلى ضرورة الاهتمام بمختلف الذكاءات تبعاً لاستعدادات الأفراد ومؤهلاتهم دون الإخلال بالتكوين المتكامل للشخصية المتوازنة.




٢. النظريات التربوية للتعلم



١. النظرية السلوكية

يركز رواد هذه النظرية (بافلوف وتورندايك ووتسون وسكينر) في تعريفهم للتعلم على السلوك الظاهر الذي يمكن ملاحظته، وقياسه والتحكم في متغيراته. فالتعلم، حسب هذه النظرية، تغير أو تعديل في سلوك المتعلم بفعل تمرين مكثف أو مثير صادر عن المحيط.
السلوكيون لا يعيرون أدنى اهتمام للعمليات العقلية الداخلية، فهم يشبهون البنيات العقلية بعلبة سوداء لا يمكن الولوج إليها، وبالتالي يكون من الأجدر الاهتمام بالمدخلات والمخرجات وما يترتب عنها من سلوكات، بدل السيرورات الذهنية وما يرتبط بها من أفعال. فهم يؤكدون على أن المحيط الطبيعي والاجتماعي والأسري بالإضافة إلى التدريب المكثف، كل هذا يشكل الإطار والسياق الموضوعي المؤثر في سيرورات النمو والتعلم لدى الطفل.
ولقد كان لهذه النظرية تأثير قوي على جميع الأنظمة التربوية إلى حدود السبعينات من القرن الماضي. ويمكن إيجاز التطبيقات التربوية المتعلقة بنظرية التعلم السلوكي في العمليات الآتية :

- أجرأة الأهداف التعلمية؛
- الإشراط le conditionnement باعتباره عملية مقرونة بالمثير والاستجابة؛
- التعلم عن طريق المحاولة والخطأ؛
- التعزيز الإيجابي أو السلبي تبعاً للسلوك الملاحظ.



٢. النظرية الجشطلتية

ركزت جل الأبحاث والتجارب التي قام بها مؤسسو هذه النظرية، من أمثال فيرتمير وكوفكا وكوهلر وغيرهم، على مفهوم الإدراك باعتباره آلية أساسية في التحليل الجشطلتي، ويتأسس هذا المفهوم على مبدأ الكل المنظم مقابل الجزء الذي لا معنى له في هذه النظرية؛ بحيث ترى الجشطلتية أن ينظر إلى الأشياء أو الظواهر أو السلوكات الإنسانية في كليتها دون تجزيء عناصر ذلك الكل، لأن كل عنصر خارج الجشطلت؛ أي الشكل الكلي أو البنية الكلية، لا قيمة له.
في مجال التعلم، تؤكد المدرسة الجشطلتية على مسألة بنينة وضعية التعلم؛ أي تنظيم أو إعادة تنظيم مختلف العناصر من أجل إدراك العلاقات الداخلية التي تعتبر أساسية لحل الوضعية.
فالتعلم الحقيقي هو اكتشاف وتعديل لمعاني الأنساق والبنيات، وتفاعل إيجابي مع الموضوعات والنتائج، مما يتيح حصول الاستبصار.
من بين التطبيقات التربوية لهذه النظرية، تعليم القراءة للمبتدئين باتباع الطريقة الكلية؛ أي الانطلاق من الجملة فالكلمة ثم الحرف. كما أن بيداغوجيا الصورة تنص على الدراسة العامة للصورة قبل الانتقال إلى دراسة تفاصيلها.



٣. النظرية البنائية

تهتم النظرية البنائية التي وضع أسسها جان بياجي، بالعمليات العقلية الداخلية للمتعلم، وترتكز على مجموعة من المبادئ :

• التعلم فعل نشيط يقوم به المتعلم : فهو ليس عملية جامدة تقتصر على تخزين المعارف في الذاكرة، وإنما هو عملية نمائية وتكييفية، تنبع من واقع حياة المتعلم واهتماماته واحتياجاته، فهو يلاحظ، وينتقي، ويصيغ فرضيات، ويحلل، وينظم، ويتخذ قرارات، ويستنتج، ويدمج تعلماته الجديدة في بنيته المعرفية.
• التعلم نشاط وظيفي، لا يتم بدون أن تكون هناك حاجة إليه من طرف المتعلم، للإجابة على سؤال محير أو حل مشكل أو فك لغز...وتحقيق هذا الهدف يعطي معنى ودلالة للتعلم ويجعل المتعلم يصل إلى حالة من التوازن النفسي الضروري.
• بناء التعلمات يمر بصراع بين المكتسبات السابقة والتعلمات اللاحقة (التناوب بين التوازن واللاتوازن).
• المتعلم لا يدمج أو يحول المعلومات التي تأتيه من المحيط الخارجي ببساطة إلى الذاكرة، بل يبني فهمه الخاص للعالم بالتفاعل معه.
• بالنسبة للبنائيين، توجد حقيقة موضوعية خارجية، وعلى المتعلم أن يدمج هذه الحقيقة في نماذجه الفكرية. ومنه فإن التعلم عملية فاعلة باستمرار لتصحيح التمثلات وتعديل الاستراتيجيات؛ أي أنه تغير يحدث على مستوى البنيات الذهنية للمتعلم.
• تركز النظرية البنائية في بناء التعلمات على أربع مراحل :


أ. الاستيعاب : عملية ذهنية تحصل عند إدراك المتعلم لوضعية مشكلة تواجهه، وفهم معطياتها تبعاً لما يتضمنه ذهنه من عمليات وبنيات فكرية متنوعة.
ب. اللاتوازن : حالة تنتج عن صراع معرفي ينشأ نتيجة عجز المتعلم عن حل الوضعية المشكلة اعتمادا على مكتسباته السابقة؛
ج. المواءمة : عملية سيكولوجية يتم من خلالها تعديل المتعلم لأنشطته وعملياته وبنياته الفكرية، لتتوافق مع متطلبات الوضعية المشكلة.
د. التوازن : حالة تحصل نتيجة حل المتعلم للمشكل المطروح، وتجاوز مرحلة اللاتوازن.



٤. النظرية السوسيو-بنائية

تعتبر هذه النظرية التي وضع أسسها فيكوتسكي، أن المعارف تبنى اجتماعيا من لدن المتعلم ولفائدته، فهو يبني معارفه، بكيفية نشيطة ومتدرجة، من خلال سياق قائم على التفاوض والتفاعل مع الجماعة أو الأقران والمحيط العام. فالتعلم يحدث من خلال الفعل والمشاركة؛ أي من خلال تأثير داخلي يتمثل في صراع معرفي داخلي ذاتي وتأثير خارجي يتمثل في صراع سوسيومعرفي نتيجة التفاعل الاجتماعي.

فالسوسيوبنائية تقارب إذن سيرورة التعلم انطلاقا من ثلاثة أبعاد أساسية :

• البعد البنائي لسيرورة بناء المعرفة من قبل الذات العارفة.
• البعد التفاعلي لهذه السيرورة نفسها، حيث الذات تتفاعل مع موضوع المعرفة.
• البعد الاجتماعي للمعرفة، حيث تتم في سياق مدرسي تتفاعل فيه بنية اجتماعية معينة.

وعليه فإن المقاربة السوسيوبنائية هي مقاربة بنائية تفاعلية اجتماعية حسب فليب جونير.



٥. النظرية المعرفية

تبلورت هذه النظرية التي هيمنت على مجال التعلم خلال العقود الثلاثة الأخيرة، نتيجة التقاء مجموعة من الأعمال أنجزت في مجالات عديدة كفيزيولوجيا الجهاز العصبي والسيبرنتيك والاتصال، وغيرها. وتهتم باستراتيجيات معالجة الفرد للمعلومات الآتية إليه من المحيط؛ أي بكيفية تحليلها وهيكلتها وإدماجها في بنيته المعرفية، ثم استخدامها لمواجهة مختلف مواقف الحياة.
وتتمثل الخاصية الرئيسة لمعالجة المعلومة، حسب منظري هذا التوجه، في اعتبار السيرورات الذهنية سلسلة متوالية من المراحل، تختص كل منها بتنفيذ وظيفة بعينها، أي بجزء من معالجة المعلومة. فعلى غرار المعالجة الحاسوبية، تمر المعلومة بمستويات مختلفة للمعالجة قبل أن تستقر في الذاكرة حسب تنظيم ذهني معين. وتحتل الذاكرة (قصيرة وطويلة المدى) موقعاً استراتيجيا في سيرورة معالجة المعلومة وحدوث التعلم.
والتعلم حسب هذه النظرية عملية تفكير يمارسها المتعلم في وضعية معينة، والتغيرات التي تحدث على إثره هي تغيرات في البنيات المعرفية ومستواها.
وقد أكدت المقاربة المعرفية على مفهوم التمثل représentation باعتباره المحتوى المعرفي الخاضع للمعالجة، والذي ينتج عنه تمثل جديد يخضع هو بدوره للمعالجة إلخ...
هكذا يبدو أن كل تمثل ظرفي، ويشكل في الذاكرة مخزوناً معرفيّاً يمكن الرجوع إليه كلما تطلب الأمر مواجهة وضعية أو إنجاز مهمة محددة.


الجامع في ديدكتيك اللغة العربية : مفاهيم، منهجيات ومقاربات بيداغوجية - عبد الرحمان التومي (بتصرف).



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-