مظاهر المضمون الذاتي عند شعراء الرابطة القلمية
نموذج محلّل في المؤلف النقدي : ظاهرة الشعر الحديث
للسنة الثانية من سلك البكالوريا | مسلك الآداب والعلوم الإنسانية
ورد في كتاب "ظاهرة الشعر الحديث" لأحمد المعداوي - المجاطي ما يلي :
"على هذا النحو أحب شعراء الرابطة أن يفهموا الوجدان، فهو النفس، وهو الحياة، وهو الكون، غير أنا لن نحفل كثيرا بهذا المفهوم الذي شخصه الفكر وتحمس له النظر، فخير من ذلك في أغلب الظن أن نتجاوزه إلى مفهوم الوجدان كما صوره شعراء الرابطة القلمية، وعندئذ سوف لا نجد شيئاً من ذلك العناق الحميم بين النفس والكون، بل سنجد مكانه هروباً من الناس ومن الواقع والحضارة...".
• ظاهرة الشعر الحديث، شركة النشر والتوزيع "المدارس" - البيضاء، الطبعة الثانية / 2007، ص : 20.
انطلق من هذه القولة، واكتب موضوعاً متكاملاً، تنجز فيه ما يلي :
• ربط القولة بسياقها العام داخل المؤلف.
• رصد مظاهر المضمون الذاتي عند شعراء الرابطة القلمية، واختلافه بين التصور النظري والتجربة الشعرية.
• الإشارة إلى مختلف الوسائل المنهجية والحجاجية والأسلوبية التي اعتمدها الناقد في مقاربة هذه التجربة.
التحليل
لقد ساهمت مجموعة من العوامل التاريخية والاجتماعية والثقافية في توجيه شعر تيار الرابطة القلمية نحو التعبير عن الذات. فالعامل التاريخي يرتبط بانتشار الوعي القومي الذي أخذ يعكس على الأفراد إحساسا قويا بذواتهم، ورغبة منهم في تأكيد تلك الذوات. والعامل الاجتماعي يتعلق بظروف الهجرة إلى أمريكا التي عمقت في نفوسهم الإحساس بالغربة، حتى أصبح السبيل الوحيد لمقاومة هذا الإحساس هو الاتجاه الكلي نحو الذات والوجدان. أما العامل الثقافي، فراجع إلى اطلاع أصحاب هذا التيار على الشعر الرومنسي الغربي الذي استهوى أفئدتهم المتعطشة إلى الحرية، وإلى التعبير عن الذات في انفعالاتها المختلفة.
إذن، ما هي مظاهر المضمون الذاتي عند هؤلاء الشعراء؟ وكيف يختلف هذا المضمون بين تصوراتهم النظرية وتجاربهم الشعرية؟ وما هي الوسائل المنهجية والحجاجية والأسلوبية التي اعتمدها الناقد في مقاربة هذه التجربة؟
لقد وردت هذه القولة السابقة في القسم الأول من الفصل الأول من كتاب "ظاهرة الشعر الحديث"؛ فبعد حديث المجاطي في هذا القسم عن المضمون الذاتي عند مدرسة الديوان، انتقل إلى الحديث عن "تيار الرابطة القلمية"، ملاحظا تمحور الشعر عند ممثلي هذا التيار حول فكرة واحدة، هي أن الشعر وجدان. وإذا كانوا يتقاطعون في هذه الفكرة مع جماعة الديوان، فإنهم يختلفون معهم في سعيهم إلى توسيع مفهوم الوجدان حتى يشمل الحياة والكون. وليس ذلك غريبا منهم، فقد آمنوا بفكرة وحدة الوجود، وقالوا بوجود روابط خفية تشد الكائن الفرد إلى الكون جملة، وأن من شأن هذه الرابطة أن ترفع من مكانة الفرد، وتقترب به من الذات الإلهية، حتى لتصبح العودة إلى الذات عبارة عن تفتح على العالم بكلياته وجزئياته.
على هذا النحو أحب شعراء الرابطة القلمية أن يفهموا الوجدان، فهو النفس، وهو الحياة، وهو الكون.
إلا أن الناقد لم يحفل كثيراً بهذا المفهوم الذي شخصه الفكر وتحمس له النظر، وإنما تجاوزه إلى مفهوم الوجدان كما صورته تجارب هؤلاء الشعراء، فلم يجد شيئا من ذلك العناق الحميم بين النفس والكون، وإنما وجد مكانه هروباً من الناس ومن الواقع والحضارة؛ فقد هرب جبران بأحلامه إلى الغاب، حيث تسير الحياة دون أن يعكر صفوها همٌّ ولا حزن ولا موت ولا قبور.
على أن جبران لم يهرب إلى الغاب وحده، إذ سرعان ما لحق به صديقه ميخائيل نعيمة. ولئن كان جبران قد آثر حياة الفطرة على تعقد الحضارة، فإن نعيمة انقطع إلى التأمل في نفسه، إيمانا منه بأن "ملكوت الله في داخل الإنسان"، وأن ليس في الإمكان أبدع مما كان، وأن لا مجال لمحاولة التحرر من الواقع الفاسد، لأن الصلاح والطلاح شيء واحد، ولأن الوجود دورة عبث يستوي فيها الموت والحياة، وهو فوق كل ذلك لا يستحق طموحا ولا جهاداً. وبما أن عقول الناس وقلوبهم لا تملك أن ترتفع في يسر إلى هذا المستوى الصوفي من وعي الحياة، فقد ألزم الشاعر نفسه بتجنبهم، مقتنعا أن كل معضلة في الحياة لا تحل إلا عن طريق واحد هو التأمل في الذات.
أما إيليا أبو ماضي، فقد وجد سبيلا آخر لتحقيق هذه الغاية هي الاعتصام بالخيال، أو تجاوز القناعة إلى الخنوع والاستسلام. فإن لم يصل من ذلك كله إلى شيء، عمد إلى الفرار من الناس ومن الحضارة كما فعل من قبله جبران ونعيمة.
ولقد أضاف نسيب عريضة إلى هذه النغمات نغمة أخرى، هي أن سر الشقاء كان في هبوط النفس من مقامها السامي، إلى درك الحياة الاجتماعية، فتبرم بجماهير الناس كما فعل نعيمة. ولما لم يكن في وسعه أن يعود بالنفس إلى مقامها السامي، اكتفى بالخروج إلى الغاب متنكرا للحياة الاجتماعية، وما يكتنفها من حركة وزحام.
وإذا كان موضوع الذات موضوعا غنيا ومتشعبا في تجربة شعراء الرابطة القلمية، فإن المجاطي قد اختار في معالجته استراتيجية منهجية وحجاجية وأسلوبية مناسبة. فعلى المستوى المنهجي اعتمد الناقد المنهجين التاريخي والاجتماعي، وذلك من خلال ربط ظهور تيار الرابطة القلمية بالظروف التاريخية والاجتماعية التي عاشها هؤلاء الشعراء، وخاصة انتشار الوعي القومي، والهجرة إلى أمريكا. وعلى المستوى التفسيري والحجاجي، اعتمد الناقد، لتوضيح أفكاره ومحاولة الإقناع بصحتها، مجموعة من الوسائل نحددها كالتالي :
• القياس الاستنباطي : وذلك من خلال الانطلاق من مبدإ عام هو "اتجاه شعراء الرابطة القلمية في تجاربهم إلى التعبير عن الذات"، ثم الانتقال بعد ذلك لتتبع مظاهر هذا التعبير في تجربة كل شاعر.
• التمثيل : ويعني تفسير الظاهرة بتقديم أمثلة عنها، ونلاحظ هذا بالتحديد عندما يريد الناقد أن يثبت حضور المضمون الذاتي عند شعراء هذا التيار، فيلجأ إلى التمثيل لذلك بقصائد من شعرهم، كقصيدة "المواكب" لجبران، و"صدى الأجراس" لميخائيل نعيمة، و"في القفر" لإيليا أبو ماضي، و"مناجاة" لنسيب عريضة...
• الاستشهاد : وفيه يلجأ الناقد، لدعم موقفه، إلى استحضار آراء بعض الشعراء والنقاد، كجبران خليل جبران في كتابيه "دمعة وابتسامة" و"البدائع والطرائف"، وميخائيل نعيمة في كتابه "مذكرات الأرقش"، ومحمد منذور في كتابه "النقد والنقاد المعاصرون"...
• المقارنة : وهي وسيلة تفسيرية وحجاجية تتخذ تارة طابعا شموليا من خلال إبراز الاتفاق بين تيار الرابطة القلمية وجماعة الديوان في ربط الشعر بالوجدان، أو من خلال إبراز الاختلاف الكبير في مفهوم الوجدان بين التصور النظري والتعبير الشعري عند شعراء الرابطة. وتتخذ تارة أخرى طابعا جزئيا من خلال إبراز الاختلاف في طبيعة الحل الذي اختاره كل شاعر للهروب من واقعه؛ فإذا كان جبران قد وجد هذا الحل في تفضيل حياة الفطرة على تعقد الحضارة، فإن نعيمة وجد ذلك في التأمل في أعماق النفس، وعلى عكس ذلك كله وجد أبو ماضي أن الحل الوحيد هو الاعتصام بالخيال.
أما على المستوى الأسلوبي، فإن الناقد وظف لغة تقريرية مباشرة، تقوم على سهولة اللفظ، ووضوح المعنى. كما أن هذه اللغة تستمد معجمها من ثلاثة حقول دلالية هي : الحقل الأدبي والفني (شعراء المهجر / شعراء الرابطة القلمية / الآداب الغربية...)، والحقل التاريخي - الاجتماعي (الهجرة / المجتمع الإنساني المتحضر / الواقع الفاسد...)، والحقل الوجداني (الحس / المأساة / الوجدان / الذات...).
وخلاصة القول، فإن دراسة المجاطي لهذا الموضوع تميزت بكونها دراسة متكاملة تجمع بين التصور النظري والممارسة التطبيقية، مما يجعل منها دراسة علمية موضوعية لا تكتفي بالوصف، وإنما تدعم ذلك بالتمحيص والتحليل، والاعتماد على الوسائل المنهجية والحجاجية والأسلوبية المناسبة.