ترجمات | كيفَ أنّ الهواء المُلوث لا يكتفي بقتلنا فحسب

كيفَ أنّ الهواء المُلوث لا يكتفي بقتلنا فحسب


الهواء الذي نتنفس قادر على تغيير سلوكنا بطرق بدأنا نفهما الآن فقط.




كيفَ أنّ الهواء المُلوث لا يكتفي بقتلنا فحسب
















بقلم : ميليسا هوجنبوم

ترجمة : سفيان حودة*


قد تُضاف في المستقبل إلى اختصاصات الشرطة ووحدات مكافحة الجريمة مهام أخرى منها مراقبة مستويات التلوث في المدن، والتدخل في المناطق التي تشهد ارتفاع مؤشّرات التلوّث إلى مُستويات قياسية في أحد الأيام. 


قد يبدو هذا كواحد من سيناريوهات أفلام الخيال العلمي، إلاّ أن الأبحاث العلمية الأخيرة تظهر لنا أن هذا هو السبيل الذي تتجه نحوه البشرية. 

لماذا يا ترى؟ فالدراسات الحديثة تظهر أن تلوث الهواء مرتبط بأحكام تفتقر إلى الحكمة المطلوبة، والمشاكل المتعلقة بالصحة العقلية، وضعف الأداء المدرسي، والمشكل الأكثر إثارة للقلق قد يكون الارتفاع في معدلات الجريمة. 

وتدق هذه الدراسات ناقوس الخطر، باعتبار أن أكثر من نصف سكان الكرة الأرضية يعيشون حاليا في المناطق الحضرية، والكثير منها يحج إلى الوجهات المكتظة أكثر من ذي قبل، والأمر الذي يثير الدهشة أكثر هو تقرير لمنظمة الصحة العالمية والذي يفيد بأن 9 من أصل 10 أشخاص يستنشقون بشكل متردّد هواءً ملوّثاً. 

وتشير التقديرات إلى أنّ مُستويات التلوث تفتك بحوالي 7 مليون شخص في السنة، ولكن هل يمكننا إدراج عدد جرائم القتل التي ترتكب بسبب التلوث إلى خانات هذه الإحصائيات؟ 


في سنة 2011 قام سيقي روث، وهو باحث في كلية الاقتصاد بلندن بالتفكير في التأثيرات الجمة لثلوث الهواء، فقد كان على دراية تامة بالنتائج السلبية للتلوث على الصحة الأفراد وعدد الأشخاص الذين يدخلون المستشفى وعدد الوفيات المتزايدة بسببه، وراودته فكرة أنه قد تكون ربما مخاطر أخرى على حياتنا غير تلك المعروفة لنا. 

بادئ ذي بدء، قام روث بعمل دراسة تبحث فيما إذا كان للتلوث تأثير على الأداء المعرفي للفرد. 


بدأ روث وفريقه بحثهم بملاحظة أداء الطلاب الذين يجتازون الامتحانات في عدة أيام مختلفة، كما أنهم قاموا بقياس معدلات التلوث في أيام الامتحان. وظلت المتغيرات الأخرى بلا تغيير: اجتاز الامتحان الطلاب الذين ينتمون إلى نفس المستوى الدراسي، في نفس المكان ولكن أيام الامتحان كانت مختلفة لمجموعات مختلفة. 



وقد خلصت الدراسة إلى أن المتغير في نتيجة معدل المتوسط كان الفارق فيها مدهشا للغاية. فالمعدلات المحصل عليها في الأيام التي كان فيها الجو أشد تلوثا كانت على صلة بالمعدلات السيئة وفي حين الأيام التي كان فيها الجو نقيا للغاية كان أداء التلاميذ أفضل. 




وقال معلقا "يمكننا أن نلاحظ انخفاضا واضحا [في أداء الطلاب] في الأيام التي شهدت تلوثا كبيرا". ويضيف قائلا: "وحتى بعد أيام قبله وبعده، لم نسجل أي تأثير- فقط في أيام الامتحان حين انخفضت المعدلات بشكل كبير".

ولتحديد التأثيرات على المدى البعيد قام روث بعمل متابعة لعمله ليرى مدى التأثير الذي سيكون عليه التلوث على مدى التسع أو العشر السنوات القادمة. فأولئك الذين كان أداؤهم سيئا في الأيام الأكثر تلوثا كان حظهم أن يلتحقوا بجامعات متدنية التقديم وبالتالي جني أموال أقل، أقل لأن الامتحان موضوع البحث كان ذا أهمية كبيرة بالنسبة لمستقبلهم. "ونرى حتى أنه مع التأثير القصير المدى للتلوث، فإنّ وقوعه في لحظة حرجة من الحياة يكون له تأثير كبير على المدى الطويل" يقول الباحث. وفي سنة 2016 نشرت دراسة تدعم ما يقوله روث تفيد بأن التلوث يمكن أن يُقلص المردودية. 

كانت هذه الاستبصارات ما دفعت روث إلى القيام بأحدث أعماله، ففي سنة 2018 قام فريق بحثه بتحليل معطيات للجرائم التي وقعت في سنتين في أكثر من 600 منطقة في مدينة لندن، واستنتجوا بعد تحليل تلك المعطيات أن معظم الجرائم الشنيعة التي وقعت كانت تقع في أكثر الأيام تلوثا في كل من المناطق الغنية والفقيرة على حد سواء. 

مع أننا يجب أن نأخذ حذرنا في الأخذ بالاستنتاجات عن العلاقة البينية بين الجرائم ومستويات التلوث، غير أن باحثين قدموا دلائل وقرائن تؤكد على وجود رابط سببي بينها. 


أينما سافرت غيمة التلوث كلما زاد معدل الجريمة 


كجزء من نفس الدراسة، فقد تمت مقارنة مناطق محددة بعينها على مر الزمان مع تعقب مستويات التلوث في تلك المناطق أيضا، يمكن لغيمة التلوث أن تسافر حيثما هبت بها الريح. وهذا يعني أن انتقال التلوث إلى مناطق مختلفة من المدينة بشكل عشوائي في كل من المناطق الغنية والفقيرة على حد السواء. "لقد قمنا بتتبع هذه الغيمة بشكل يومي ونرصد الجرائم التي تحدث عندما تصل تلك الغيمة.... ووجدنا أنه أينما حلت تلك الغيمة ارتفعت معدلات الجريمة." يقول الباحث روث. 

والأهم من هذا هو أنه حتى مع وجود نسبة معتدلة من التلوث فإن ذلك يحدث فرقا، "ولقد خلصنا إلى أن هذه التأثيرات الكبيرة على الجريمة في مستوياتها الحالية هي أقل بكثير من المعايير التنظيمية"، بعبارة أخرى فالمستويات التي تحددها الوكالة الأمريكية لحماية البيئة على أساس أنها "جيدة" تبقى لها صلة قوية مع معدلات الجريمة العالية. 

فبالرغم من أن دراسة التي قام بها روث لم تجد صلة قوية لمستوى التلوث بالجرائم الأكثر خطورة كالقتل والاغتصاب، إلا أن الدراسة التي برزت سنة 2018 تفيد باحتمالية وجود هذا الرابط. فالبحث الذي قاده جاكسون لو من معهد ماساشوست للتكنولوجيا قام بدراسة معطيات تمتد لتسع سنوات تشمل معظم الولايات المتحدة الأمريكية وتشمل 9000 مدينة، وقد خلص البحث إلى أن "تلوث الهواء مرتبط بستة أنواع للجريمة" بما في ذلك القتل والاغتصاب والسرقة المسلحة، وسرقة السيارات والسطو المسلح. فالمدن التي تشهد ارتفاعا كبيرا في معدلات التلوث هي الأخرى تعرف ارتفاعا مهولا في معدلات الجريمة، وهذه أيضا دراسة تبحث في العلاقة البينية، لكنها تُحمّل المسؤولية لعوامل أخرى كالتلوث ومعدلات البطالة، والسن ونوع الجنس- ومع ذلك يبقى التلوث المصدر الأهم لارتفاع معدلات الجريمة. 

وهناك دلائل أخرى نجدها في بحث تحت عنوان "السلوك الجنحي" (بما في ذلك الغش، التهرب من المدرسة، السرقة التخريب، واستعمال المخدرات) لدى 682 مراهق. قامت ديانا يونان من جامعة ساثرن كاليفورنيا وزملاؤها بملاحظة تهمّ نسبة المعلقات الهوائية 2.5- وهي جسيمات أصغر ب30 مرة من شعر الإنسان- وترى التأثيرات المتراكمة على مدى 12 سنة للتعرض لهاته الملوتاث. مرة أخرى، فالسلوك السيء كان بشكل واضح أعلى بكثير في المناطق التي تشهد تلوثا أكبر. 

وللنظر في هذا الرابط الذي لا يمكن شرحه من الناحية السوسيو اقتصادية، وقد أشار فريق يونان أيضا إلى أن تربية الأباء، وحسن جودة الحي، وعدة عوامل أخرى ينبغي عزلها لنرى مدى تأثير الجزيئات المجهرية الملوثة على مستويات الجريمة. 

وتقول يونان أن نتائجها تعتبر مقلقة إذ أننا كما نعرف فتصرف الفرد خلال فترة المراهقة يعطي إشارة قوية لسلوكه عندما سيصبح شابا. فالأشخاص الجانحون لديهم ميل أكثر أن يكون أداؤهم في المدرسة أسوء، وأن يعانوا من البطالة في المستقبل، ولديهم نزعة لاستعمال المخدرات، وهذا يعني أنه يجب أن يكون هناك تدخل في السنوات الأولى للدراسة لأنه ذو أولوية كبرى. 


التعرض لعدد من الملوثات يمكن أن يسبب التهابا في المخ 


هناك العديد من الآليات التي يمكن أن تشرح لنا كيف يؤثر تلوث الهواء على سلوكنا. 

يقول "لو" Lu أنه حتى مجرد التفكير في التلوث يمكن أن يؤثر على نفسيتنا نظرا لارتباطاته السلبية. 


فالباحثون لن يستطيعوا بطبيعة الحال أن يعرضوا المشاركين في التجربة للتلوث، لذلك تم اتخاذ الخطوة التالية التي تعد الأفضل (ومسموح بها أخلاقيا). فقد عرضوا صورا على مواطنين من الهند والولايات المتحدة لمدينة شديدة التلوث، وطلب منهم أن يتصوروا أنفسهم يعيشون في هذه المدينة. "جعلناهم يعيشون تأثيرات التلوث من الناحية النفسية" يقول لي.... وبعد ذلك طلب منهم أن يتصوروا أنفسهم يعيشون في تلك المدينة كحقيقة، كيف سيكون شعورهم وكيف ستكون حياتهم في تلك البيئة، لجعلهم يعيشون التجربة من الناحية النفسية بالمقارنة بالعيش في بيئة نقية..

وقد لاحظ الباحث ارتفاع في مستويات القلق لدى المشاركين في التجربة، إذ أصبحوا منغلقين على ذواتهم- وهذه ردة فعل تؤدي إلى ارتفاع العدوانية والسلوكيات اللامسؤولة، ويقول لي في هذا الصدد: “كآلية للدفاع عن النفس نعلم جميعا أنه عندما نشعر بالقلق أو الهلع فمن المحتمل أن نوجه لكمة لأحدهم، بعكس ما نكونه في حالة هدوء"، ويضيف قائلا: "إذن فبالرفع من مستويات القلق لدى الناس، فإن التلوث الهوائي يمكن أن تكون له عواقب وخيمة على سلوكياتنا." 



عندما نشعر بالقلق فمن المحتمل أن نوجه لكمة لأحدهم بعكس ما نكونه في حالة هدوء



وبالتعمق في التجربة، فقد كشف فريق البحث أن المشاركين في البحث في الظروف "الملوثة" كانوا أكثر عرضة للغش في عدة مهمات وكان أداؤهم مبالغا فيه للحصول على جوائز. 


ويعتبر هذا البحث البداية فقط، ويمكن أن تكون عدة أسباب أخرى لهذه التأثيرات إلى جانب ارتفاع القلق والانطواء على الذات التي قدمها السيد لي- بما في ذلك تغيرات بنية الدماغ. فعندما تستنشق هواء ملوثا، على سبيل المثال، فإنه يؤثر على كمية الأكسجين التي تدخلها إلى جسمك- وهذا هو الآخر يمكن أن ينتج عنه تقلص في "الهواء الجيد” الذي يذهب إلى الدماغ، وقد يسبب التهابا في الأنف، والحنجرة، وصداعا في الرأس، وكل هذا يمكن أن يقلل من معدلات تركيزنا. 


ومن الواضح أن التعرض لعدد من الملوثات يمكن أن يسبب التهابا في الدماغ ويمكن أن يسبب تلفاً في بنية الدماغ والموصلات العصبية، تقول يونان “فالذي يمكن حدوثه هو أن ملوثات الهواء تقوم بإتلاف القشرة الأمامية للدماغ". وهذه المنطقة بالذات مهمة لأنها مسؤولة عن التحكم في نزواتنا، ووظائفنا التنفيذية والتحكم في ذواتنا.


فإلى جانب ارتفاع معدلات الجريمة، وهو الآخر يمكن أن يكون سببا في حدوث تدهور خطير في الصحة العقلية، فقد أظهرت دراسة نشرت في شهر مارس 2019، أن المراهقين الذين يتعرضون إلى الهواء الملوث والمتسمم يكونون أكثر عرضة للإصابة بنوبات نفسية حادة كسماع أصوات أو الإصابة بجنون الاضطهاد. وتقول الباحثة البارزة جوانين نيوبورن Joanne Newbury من جامعة الملك في لندن أنها لا يمكن أن تجزم بالقول إن نتائجها سببية ولكن نتائجها تتوافق مع دراسات أخرى ترجح وجود رابط بين تلوث الهواء والصحة العقلية، "يمكننا فعلا إضافة إلا الدلائل التي تربط بين تلوث الهواء ومشاكل الصحة الجسدية، يمكننا أن نرى أن تلوث الهواء له علاقة بالإصابة بالخرف، إذا كان سيئا للجسم فمن المتوقع أن يكون سيئا للدماغ أيضا". 

ويقول المتخصصون إنه يجب الرفع من الوعي بشكل كبير لتأثير التلوث، إلى جانب الوعي بمخاطر التلوث على صحتنا الجسدية المؤكدة سابقا، "نحتاج إلى المزيد من الدراسات التي تظهر نفس الشيء على نفس السكان ونفس الفئات العمرية" تقول يونان. 

ولحسن الحظ يمكننا أن نتحكم في مستويات التلوث التي نتعرض لها يوما بيوم، فيمكننا أن نكون فعالين وأن نقوم بتفقد جودة الهواء في اليوم، فالمقاييس تحدد متى تكون الأيام أكثر تلوثا، ومتى يكون متدنيا، وتقول يونان "إذا كان مستوى التلوث خطيرا، فلا أنصحكم بالركض في الخارج، أو يمكنكم القيام بالتمارين الرياضية في المنزل".

في حين أن بعض الدول تنتظر تشريعات أكثر تشددا اتجاه التلوث، أو تنتظر تدخل الحكومة لكبح مستويات التلوث العالية، فقد اتخذت بعض المناطق خطوات إيجابية، لنأخذ ولاية كاليفورنيا الأمريكية على سبيل المثال، حيث أدت التشريعات المتخذة إلى تقليل من مستويات التلوث، والمثير للاهتمام هو انخفاض مستويات الجرائم. فبالرغم من أنّ هذه النتائج تبدو مبشرة، إلاّ أنّ الباحثة يونان تشدد على أن العلماء لا يدرون بشكل جازم ما إذا كانت هذه النتائج مصادفة أم حقيقية. 

فبينما نحن في لندن من 8 أبريل 2019 أحدثت "منطقة ذات انبعاث منخفض جدا للغازات" والتي وضعت معايير جد مشددة للانبعاث الغازات مع إضافة 12.50 جنيه استريني يوميا "على معظم المركبات" بالإضافة إلى 11.50 جنيه إسترليني ضريبة عن الاكتظاظ. وقد دخلت العديد من الحافلات الصديقة للبيئة إلى الخدمة ضمن مبادرة تحت شعار "هواء أنقى لمدينة لندن".


يقول روث "نحن نقوم بعمل جيد عبر تقليص التلوث في العديد من الدول، ولكن علينا القيام بأكثر من هذا، فليس من الضروري أن تكون الحكومة، ولكن أنا وأنت معنيون بهذا أيضا. عندما نفكر ما الذي نود أن نشتريه، كيف نصل إلى وجهتنا، فإننا نؤثر على البيئة وعلينا أن نسعى أن نكون أكثر وعيا وأن نتخذ قرارات صائبة عن ما الذي نفعله".

ويبقى روث متفائلا بفكرة أن مراقبة معدلات ارتفاع معدلات التلوث هو تحت تصرفنا لنقوم بحله، ولكن إلى تلك اللحظة، علينا أن نجعل الناس أكثر وعيا بالمسألة. 


إذا بدأنا بمراقبة مستويات التلوث بأنفسنا، فإننا يمكن أن نبدأ عادة بتجنب القيام ببعض النشاطات، كالقيام بالرياضة في الخارج، أو حتى التنقل في أكثر الأيام تلوثا، ستستفيد أجسامنا وعقولنا ويتحسن تصرفنا.




المصدر : هنا 
*للتواصل مع المترجم :
 soufianetranslation@gmail.com








تعليقات