أوّلُ الغيابِ آخرُ الحضورِ
رحيم دَودِي
"اختنق في صمتك المتعفّن.
فلتتقرّح جراحكَ السّوداء.
اُنزف هذيانكَ بعيداً عن زهوري.
لا صمتكَ يقهرُ ضبابي.
لا تورياتُك السّائبةُ تهزّ وجداني. فليكن الجحيم مُوئلكَ الأبدي يا ابن الليلِ الأليل. بزوغكَ شرٌّ هاذٍ، مستطيرٌ، متفاقمٌ".
سطرتِ الحروف ورفعت بصرها مُحدقةً في الضّوء المتسخِ؛ ضوء المصباحِ المغبر. سالَ الضوءُ على شكلِ دموعٍ صفراءَ ثم ائتلفَ في حزمةٍ مُترابطةٍ تصبُّ لعنتها، بشراسةٍ، في مركزٍ واحدٍ. كانت الغُرفة تدورُ ألفَ دورةٍ في الثّانية؛ علبةٌ نيّرةٌ تستوردُ الضوءَ الوافدَ وتستولدهُ صوراً يتذابحُ في أعماقها اللونان الأبيض والأسود. دقائقُ منسحقةٌ ثم ارتسمت شاشةٌ مصغّرةٌ على الحائطِ المتشقّق:
طفلٌ يركضُ وراءَ غيمةٍ. يتسلقُ سُلّما لا مرئياً. يمتطي الغيمة ويمخرُ عبابَ بحرٍ معلقٍ في سقفٍ أزرقَ. طفلةٌ تطاردُ فراشةً بنفسجيّة. تتواثب دونما نظامٍ. تتمايلُ الفراشةُ مُرخيةً قيادها للأثير. تمعنُ في النوسانِ مُهتدية بنداءٍ عميقٍ، سريٍّ، ملتبسٍ تفهمهُ الفراشاتُ فقط. تُعاند الفتاة راكضة -في كلّ الاتجاهات- متلهّفةً إمساكَ شهوةِ اللون، مُحتضراً، بين الأنامل الصغيرة. في شهقة الإمساك الأخيرة انتفى اللون والحركة واستحالا هُلاماً. بكت الطفلة كما لم تفعل قطُّ. ارتوى الثرى من دمعها فأنبت زهراً. نادى الزهرُ اللونَ فاندلعت الفراشاتُ في كلّ الفضاءات. أرضٌ تعانقٌ، أبداً، لونها. وسماءٌ تتلمّس، حقيقةً، غيمها. طفلٌ يمتطي غيمةً هاربةً. طفلةٌ تراقصُ اللونَ حركةً وإيقاعاً وإحساساً...
كانت الصّور تهمي، متصلةً، على الحائط المتشقّق. فيتقعّر الحائطُ تارةً ويستوي طوراً. يتحدّب مرّةً ويترمّم مرّات. حائطٌ متقلّبُ المزاجِ يتدخَّلُ في اندفاق الصُّور. يحرّف المعنى عن سياق أنينه. في خضم هذا التّوهجات الملتبسة، كانت الـمُنمّشة تتوغلُ في المشاهدِ رصداً وتحليلاً. لم يكن خطّ التّحليل مُسعفاً على افتكاك المعنى. دارتْ بها المشاهدُ على نحو إيهليلجيٍّ مُربكٍ. استأنفت التحليل مرّة أخرى. عبثاً حلّلت. مشاهدُ تقتحمها دُفعةً واحدةً كالموت أو كشيءٍ آخر لا ندريه تسميةً وتوصيفاً. قلّبت الصور على وجوهٍ متعدّدة. أعادت ترتيبها وَفق نظامٍ مُغايرٍ. لم تُفد شيئاً. فأذعنت لبياض المشهد الـمُستحكمِ، المهيمنِ، المستحوذ.
بعدَ صفاءِ مياهِ الذّهن. آب التفكير للرسو عند مرافئه المعتادة. كانت عيناها مُلبّدتين بالفصول والعواصف والمطر. هاجست نفسها بالصّوت القديم ذاته: "اختنق في صمتك المتعفّن. فلتتقرّح جراحكَ السّوداء. أُنزف هذيانكَ بعيداً عن زهوري. لا صمتكَ يقهرُ ضبابي. لا تورياتُك السّائبةُ تهزّ وجداني. فليكن الجحيم مُوئلكَ الأبدي يا ابن الليلِ الأليل. بزوغكَ شرٌّ هاذٍ، مستطيرٌ، متفاقمٌ". كانت الكلمات تندلق داخلها بعُسرٍ ووجعٍ. أضاءتْ وجه الهاتف. ولجتْ علبةَ رسائله وكتبت: "ماذا تريد يا لعنةَ اللعنات؟ كنتَ غائباً كلّ هذه القرون. فمَا حملكَ على الإطلال من جهة الرّيح؟ عُدْ إلى غيابك فالحضور لا يليقُ بك. ألست ابن الفراغ؟ ألم تعتنقه فلسفةً؟ كن فراغاً أصيلاً. كن عدماً كاملاً. واترك وجودي لوجودهِ...". أطفأت هاتفها ورمته جانباً ثم انكفأت على نفسها في ليلٍ لا يشبه الليل.
حينَ استيقظت وجدت وجه هاتفها مُضيئاً. أدخلت كلمة السّر بذهن طردَ تثاقله وتيقظ في ومضةٍ. ثم فتحت علبة الرسائل وطفقت تقرأُ بصوتٍ مختنقٍ: "أما أنْ أكونَ لعنةً فهذا خارجٌ عن إرادتي. نبتتُ عُشبةً بريَّةً في خلاءٍ عارٍ. يومَ وضعتني أمّي مَات أخي. قالت أمّي -بعدَ حُزنٍ ممضٍ طويلٍ- عوضني الله بهذا الوليد عن ذاك الفقيد. حينَ وعيتُ ذاتي قلت: سرقَ الوليدُ حياةَ الفقيد. بكت أمّي وقالت: لا تجدف، فأنت التعويضُ الجميلُ. فصرخت: أنا النهبُ مُفْتَضَحاً في زمن هبوبه الأوّل. أنا الخواءُ المترع بتهم السرقة الأولى. حتى حياتي لم تكن لي. أعيشُ على حصص أخي المغدور. صمتتْ وصمتُّ. وأُبْــرِمَ عقدٌ بيننا على ختم الموضوع بالشمع الأحمر. تَسْأَلِينَنِي الآن: ألستُ فراغاً. ماذا يبدو لكِ الآن!؟ أنا لستني. ما ترينهُ ليس أنا. أنا الغيابُ الأكيدُ. أنا شبحي. فراغٌ يلتفُّ حول نفسه. وتسألينَ: ما بُغيتي منكِ؟ ألا تعرفينَ؟ أُجيبك: الأرواح/ الأشباحُ تحنُّ لبعضها. التقينا قبل أن نكون، غصبا، هنا، في مكان ليس لنا. كنا، هنالك، على سطح تلك الزرقة، طفلاً وطفلة بهمومٍ صغيرة وأحلام كبيرة: طفلاً يحلم بوضع السّماء في قَلبه. وطفلةً تتحلّب لهفةً لتحلّق عَالياً مع الفراشات مُتماهية مع اللّون. كنا الضوءَ والحركةَ في تموجٍ منتظمٍ، متوهّجٍ، يهفو لمعانقة مُطْلقه. الله، وحدهُ، حينها، كان يعلمُ جمالهُ المتبدّي من خلقه المبهر. فتعالي نقول لله بصوتٍ واحدٍ: كم نحن حيارى دونكَ. كم نحن مكبّلين بأجسادٍ ليست لنا. فهلا أعدتنا، أيّها الواحدُ المتعالي، إلى بياضنا الأصليّ. وأقول لكِ، يا سيدة القرى البعيدة، إنني لن أترك وجودَكِ لوجودهِ؛ لا لأنني لا أريد ذلك، لا لأنك جميلة؛ فأنت لستِ جميلةً بالمفهوم المتواترِ، بل لأنّ وجودَكِ لم يترك وجودي لوجودهِ. طلبُكِ أكبرُ منّي. فالوجدُ أسبق من الوجود. لا يستدعي الوجَدُ حضوراً. الحضور يُبدّده يُفنيه. الغيابُ يشعلُ أوّارهُ. فغيبي عني ينمو جوهركِ في مطاوي روحي كليلكٍ أو لبلابٍ. الغيابُ ومضةٌ يبدو فيها البعدُ أشدّ قُرباً. حين تكبرُ المسافة ويستحكم الغياب أفقدُني فيكِ فأصيركِ وتصيرنني...".
أنهت قراءة النّص وأعادت قراءتهُ من البدايةِ. كان النص يتشكّل في وعيها بصورةٍ مغايرةٍ. وكأنّ ما ارتسم في ذهنها في القراءة الأولى انتفى. في كلّ سطرٍ ينبجسُ معنى ويــمّحي في السطر الذي يليه. بين الظهور والمحو كان الوعيُّ ينزلقُ بارتجاجٍ عنيفٍ. يتشظى ويترمّم. بروقٌ صواعقُ نيرانٌ ثم مطرٌ يروي الرّوح والقلب. وضعت الهاتف على حافة السرير وآبت إلى نفسها الشّريدة. فتحت عينيها على اتساعهما مُحدقة في المصباح الحزين. صارَ المصباحُ كوةً مشرعةً على الأفقِ الأزرق. نبست بحروفٍ من نورٍ ثم غابت كما تتمنى الأساطير...