حكايات الريفيّة المنمّشة (3) | حلمُ مَا بعدَ الوداعِ

حكايات الريفيّة المنمّشة (3)

حلمُ مَا بعدَ الوداعِ


رحيم دَودِي









حكايات الريفيّة المنمّشة




وضعَ رأسه على وِسادته، أغمضَ عينيه، ثم غاب فكانَ الظّلام وكانت الهيُولى: أصلُ الحقائق، مظلمةً، قبل أنْ تتشكَّل وترتسمَ صوراً ووجوهاً...
في غيابه الرازحِ تحت قبضةِ النّومِ رأى وجهها يتخذُ معانٍ لا حصرَ لها: وجهٌ طفوليٌّ. وجهٌ بريءٌ. وجهٌ غاضبٌ. وجهٌ حزينٌ. وجهٌ متشفٍ. وجه حانقٌ. وجهٌ متودّدٌ. وجه عاشقٌ. وجه مراوغٌ. وجهٌ معاتبٌ. وجهٌ خائفٌ...كلُّ وجهٍ يُضْمِرُ صورةً. تماهت كل الوجوهِ في صورةِ جوليا؛ سيدة الحلمِ التي كلّما اقتربَ منها تناءت وغارتْ في عمق ذاكرته. استنار الظلامُ، فجأة، فأبصرَ، وسطَ كرنفالِ زهورٍ جوريّةٍ، الصورةَ تراقصُ شبحهُ. كانا يتحركانِ بانتظامٍ محسوبٍ، منسجمٍ، مرسومٍ. اليدُ تمسكُ اليدَ. العينُ تحاورُ العين. القدمانِ توازيانِ القدمين مشياً ووثباً. وحدهمُا وسطَ ظلامٍ مُشتعلِ الكبدِ يرقصانِ بتناغمٍ. لا الماضي يعكّر صفاء القلب. ولا الحاضر ينغّص نقاء الموسيقى المندلعة من الأرض والشّجر. الحنين، وحده، كان يجمع صورة وشبحا داخل لغة داغلة في الغموض والالتباس. والمجهول، وحده، كان قادراً على تشفير ما يحدثُ، هنا؛ في مملكة الغيابِ.

مُتخاصرين كأرضِ تضلعُ قمرهَا كاناَ يدورانِ فوقَ الحافاتِ التي تتّسع تحتَ الأقدامِ والرّوح. نظرت إليهِ في أوج اشتعالها. نظرَ إليها في حُميا احتراقهِ. تشابكتْ روحهما على نحوٍ لبلابيٍّ مُنظمٍ بدرجةٍ عاليةٍ من التعقيدِ.



- قالت: لا أريدُ أنْ أراكَ أبداً.
- قالَ: سأموتُ فيكِ ثم أرحلُ إلى الأبدِ.
- قالت: أنتَ الحبُّ المُستحيل الناهضُ من وهمِ الصّورة.


- قالَ: أنتِ الموتُ الذي كنتُ أحتاجهُ لرحلةِ العبورِ الأخير.
- قالت: مُتْ، إذاً، ودَعني استريحُ من خَطرفَاتكَ.
- قال: إني متُّ قبلَ الآن وأحتاجُ موتاً آخرَ أشدَّ فتكاً.
- قالت: أيموت الإنسانُ مرتين؟
- قال: يموتُ آلافَ المراتِ.
- قالت: سأجنُّ حتماً، لِمَ ظهرتَ الآن فقط. أينَ كنتَ غائباً كلّ هذه القرون؟

- قال: كنتُ أحرسُ قلبي من صوركِ.
- قالت: كيفَ كنتَ تفعلُ ذلك؟
- قال: كنتُ أعاقر المجازَ وأُدمنُ البحث؟
- قالت: ولِمَ عُدتَ الآن؟

- قال: لأن صورتكَ استفحلتْ داخلي فعجزتُ عن إخمادها.
- قالت: جرّب ثانية فأنتَ تستطيعُ.
- قال: لستُ أدري...
سكتا معاً. نظرت في عمقِ عينيه المتورمتينِ. تأمّل صورتها الحزينة. اقتربت شفتاها من شفتيه. ذابَا في قُبلةٍ داميةٍ عُمرها ومضةُ برقٍ ثمَّ امحيا معًا. استيقظَ رحيم من حُلمه على وقعِ سُعالٍ جافٍ، حادٍ، أغلقَ تجاويفَ الرئتين. كانَ منديله مضمّخاً بقطراتِ دمٍ. طفقت درجةُ حرارته تعودُ إلى طبيعتها. حدّق في السقف مُدَّة ثم صدعَ بصوتٍ متهدّجٍ مختنقٍ: لن أموتَ الآن...ما زالَ في العُمر مُتّسعٌ للرحيلِ...






حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-