حكايات الريّفية المُنمّشة (2)
عودةُ الطّيف
رحيم دودي
من أينَ انبجسَ هذا الطيفُ الصاعق؟ ما وراء هذه الحروف المُلغزة الشقيّة؟ إلامَ يرمي هذا المجنون الذي غاب زمناً ثم تراءى، بغتةً، في أقل الأوقاتِ ارتقاباً؟
لم تُصَدِقْ أنّ الطيفَ الذي أرسَل النص كانَ رحيماً. استجمعت أنفاسها المتقطّعة في محاولةٍ مُوجَّهَةٍ لاستيعاب الحاصلِ. عبثاً حاولت. آلاف الأسئلة تقصفُ ذهنها فتحيلهُ رُكاماً متنافراً من الهواجس المتضاربة والمشاعر المتنافرة. لم تكنْ تتخيل، قطعاً، أن يُباغتها طيفهُ الصاعق الآن. وضعت هاتفها جانباً وراحت تتفرّس الطارئ المربكَ بوعيٍ مُفْتَرَسٍ يجاهدُ أَسباب التهافتِ. في مدارات الانصعاق آبت بها الذاكرة إلى الأزمنة التي كانَ يُعلمهم فيها: كانَ مجنوناً، وسيماً، مغروراً ومعتدًّا بنفسهِ. يبدو أحياناً متكبِّراً جدّاً وفي أحيان أُخَر كان يظهر متواضعاً. لكن، بعدَ كلّ شيء، كانَ محبوباً من لدنِ تلاميذه وتلميذاته. حتى رحيله كانَ غريباً؛ فلم يقضِ سوى سنتين في جبالنا بعدها لملمَ حُضوره وانسحبَ بجفاءٍ صامت. وكأنه لم يكن حاضراً يوماً.
هميان الرؤى المختلطة لم يتوقف. شواشٌ أعمى يدور ويدورُ ثم يندلع عبر انفجارات ذهنيةٍ مُتتاليةٍ. لم تستطع أنْ تفهمَ ما يحدثُ حولها. هاجست نفسها بالنبر المُتحيّر: "هذه العودةُ خلفها أمرٌ مريبٌ ما. لِمَ يؤوبُ الآن في ظرفِ الجائحة؟ أيكونُ مصاباً بالمرضِ الطاعنِ للحياة أم أنّه يبيّتُ شراً مقرفاً في طويّته؟ لعلّ الأمرَ يرتبطُ، حقيقةً، بشعورٍ غامضٍ تَلبَّسَ قلبه فدلفَ نحوي ليدلقَ سرَّه أمامي. إلهي ماذا يريدُ هذا الطّيفُ منّي أما تكفيني مشاغلي وهمومي الصغيرة والكبيرة؟".
أنارت شاشةَ الهاتف. فتحت علبة الرسائل الخاصة به. وشرعت تراوغهُ بذكاءٍ تارةً وبغباءٍ طوراً آخر. لم تكن تعرفُ أن من تحادثهُ ليسَ رحيماً الذي عهدتهُ قديماً، بل صورةً مختلفةً تحدسُ المعنى في منابت ارتسامه الأولى. في لعبةِ قوامها القبض والخفض كانَ الحوار بينهما يهرول نحو نهايته. كانَ قلبها، هاهنا، يرتجفُ بشدَّة. وكان قلبهُ يرعفُ كمداً. في حياته التي تشبه البراكين لم يربح قلباً. كل ما كانَ يربحهُ يخسرهُ، ليس لأنَ من اشتبك معهم كانوا أشراراً، وإنّما لأنّه كانَ يحسُّ، دوماً، في صميمه، وحدةً مُفجعةً تجرّه من أهدابه إلى الحُجرات المغلقة والصفحات الصفراء المترعةِ بالمعنى. لهذا السبب كانت حياته منذورةً للخسران الدائمِ والفقد المستمرّ. كلما امتدّ خَارِجَهُ صرخَ دَاخِلُهُ منكفئا، بضراوةٍ، حولَ نفسه.
في حِوارهما -الذي كانَ أقربَ إلى الومضاتِ الخاطفة- سألته عن نفسهِ وسألها عن نفسها. سألها عن زمنها وسألته عن زمنه. كانَ قريبا منها؛ على بُعدٍ شمعةٍ أو قُبلة. كانت قريبة منه؛ على بُعد دمعةٍ أو شُعلة. كاناَ حوار الظلّ للماء: هي الامتداد الأزرق الحمّال للحياة صوراً... وهو نارسيس المتوغّل في عمق الأزرق باحثًا عن هويته المتبدِّدة. وكلما توغّل ابتعدَ أكثر. لهذا، قرّر أن يبتعدَ لكي يقترب من صورتها داخله، فآثر، مرّة أخرى، الغيابَ على الحضور. وكانَ الوداعُ...وكانَ الألم...