لذّة النصّ | ظلُّ الغريبة...



ظلُّ الغريبة...

رحيم دودِي



لذّة النصّ | ظلُّ الغريبة...| رحيم دودِي





أغلقتْ عينيّها بإغراءٍ متوحشٍ. صمتٌ مخيفٌ يلفُّها. لم تكترث بأحدٍ. انزلقت صوبَ مقابرها الدّاخليّة تُدَاري وَعثاءَ السّفر. إلى أين؟ إلى المُدن القصيّة؛ تلكَ التي تطّل على بحرِ الشّمالِ. كانتْ لغتها صمتاً ممضاً، موجعاً، أليما، على نحوٍ غير مفهومٍ. أَلَيْسَت لُغة المتَوحِّدينَ: الصمت المحتقن بإيحاءاتٍ ملتوية عصيّة على الفَهْمِ. في رجفةِ نومٍ لذيذٍة، تململتْ بغوايةٍ مُربكةٍ، كانَ إفريز النّافذة حاقداً على رُخام ظهرها الأبيضِ. وكانَ الشّالُ القطنيّ قاصراً عن تليينِ صلابة الإفريز.
وحْدَهُ رحيم كان يَتملّى -ببلادةٍ- لعبة التحرّش في كلّ أبعادها. أيّة مصادفة مدبّرةٍ هذه! لا بدّ أن قدراً لئيماً اقتنص لي سفراً مُعذِّباً: كهذا. رنّ الهاتف، فَأَخْرَجَ الغريبة من نَهرِ حيادها، وأفسد لحظة الاسترخاءِ، لحظة مُعانقة الذاتِ لذاتها، تلك التي نعودُ فيها إلينا، ونهمسُ بحرف النور: أنتِ، يا أناي، التي بحثت عنكِ ردحاً استيقظي. وحَدِّثي صَمَتَ لغتي المُعذَّبة تُحَدِّثك -هذه اللغة- بحرفٍ مدموغٍ، مثلومٍ. أعادتِ الهاتف لصمته العرضيّ. وآبت إليها لتكمل رحلتها. هي ذي، تُنَاجي الرّوح خَارج الإحداثيات البكماءِ، خارج المعنى؛ عبر حسٍّ أدنى يتلولبُ حول نفسه.


وضعَ رحيم أوراقه البيضاء متوجساً، حدسَ أنّ خَلْفَ الفتاةِ حكاياتٍ كثيرة لا تودّ الاشتباكَ فيها، لا تودّ -بالأحرى- مُقاسَمَته إيّاها. وخمّن -وقد يكون مخطئاً- أنَّ وِجهتها بعيدةٌ: قُرب البحر. في هنيهة التوجّس هاته، ثَنَتْ الغريبة ركبتيها بإغراءٍ لاذعٍ. ورشقت نظراتها صوب الأفقِ الأزرقِ البعيدِ، تتأملُ السّحب وهي تتآلف وتتشتّت على نحوٍ سرياليّ مُرعبٍ، كانت نظراتها، عبر الوسيطِ، مزيفة للحقيقة، وحاجبة عينينِ تستبطنانِ كلّ الأسرارِ المريبةِ، تلك التي تُخبر ولا تخبر. أليمٌ هو سفرُ الغرباءِ. وأليمٌ هو الظّل حين يفقدُ ظله ويبكي وحيداً. ومؤلمٌ هو التّوحد في الصمت، والحديث فيه وبه.

عبرَ المدى الأزرق، وانهمار الذاكرة، مضى الغريبُ يعفّر كلماته بالدّم الأسود، ساحَ في الغيبِ الهُلامي، المُعتمِ، علّ هذا الغيبَ يمدّه بقليلٍ من السّوادِ يدثّر به ما تبدى من سرّه. كلّ سرّ توارى خلف أسيجة العيون خنجرٌ قاتلٌ. وكلّ لفظةِ إعجابٍ أحجمت النفس عن إبدائها جريمةٌ يعاقبُ عليها المحفل الأعلى.

صراعٌ محتدمٌ عاشهُ الغريبُ، بينه وبين نفسهِ. ما السبيلُ إلى المكاشفة؟ ما السبيل لربط حبلِ الوصلِ بالغريبة؟ هل يُقْرِئها ما كتبه في مفكرّته الإلكترونية؟ هل ينظر في عمق عينيها ويدلقُ سرّه فيهما؟ في كلّ مرة يتقدّم يتقهقر. هي ذي امرأة من زمنِ الجبلِ السحيق تقاسمه رحلة سفرٍ إلى مُدن الشمال. امرأة ذات جمال جبليٍّ لذيذٍ. هو ذا رجلٌ من أزمنةٍ مكسوفةٍ يحاولُ التقدّم نحو حتفه المُشتهى. لكن في ارتباكه الأخير أدار حاسوبه نحوها. قال بلسانٍ متعثرٍ مُداريا النظر إلى أزرق عينيها:


- أرجو أن تقرئي هذا سيّدتي...
أدارت الحاسوب برقةٍ وصمتٍ ضاجٍّ بالمعنى، عدّلت نظّارتها الطّبية، وطأطأت رأسها دلالة الموافقة. بعدها استغرقت في قراءة الرّسالةِ، كانت تقرأ بتمعنٍ دقيقٍ، تتعقّب حُبَيبَاتِ المعنى التي مَا إِنْ تتبدّى حتى تتلاشى. حين أنهت القراءة، نظرت صوب الغريبِ، وهمست بصوتٍ رخيمٍ، ممغنطٍ، ذابحٍ:

- من تكونُ يا غريب، حروفك شقيّة وطاعنة في الغرابةِ؟
- مسافرٌ مثلك في هذا القطار...
- أعرفُ ذلك...لست بَلهاء... لكن أيّ فجيعة تخفيها وراءَ هذه التوريات المخاتلة؟
- لستُ أدري، لم أكتبها؛ لقد اِنْكَتَبَتْ، هي، من خلالي...!
- يبدو أنّك متعبٌ، نم قليلاً، عُد إليكَ، قد تَجِدكَ...!
- ليس مهمّا أن أَجِدَنَي، فكلّ بحث موعود باللقيا بحثٌ عقيم. وكل حقيقة يُرامُ وصولها -بعدِّها سدرة مُنتهى- لا يعوّلُ عليها. كلّ هوسٍ مريضٍ بالوصول لا يعوّل عليه. كلُّ جَمالٍ لم يحرك صمت الحيادِ فينا لا يعوّل عليه؟ وأنت، سيّدتي، كلّ جراحي تفتحُ أبواب قلاعها لك، فادخلي -إِنْ كانَ يعوّلُ عليكِ- بصمتٍ إليَّ؛ أو اتركيني أحترق، وحيداً، -بغوايةِ الجسدِ المتوفزِ وغدرِ اللغة الضّالعة في الشّر- بعيداً عن كلّ العيونِ...





حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-