أولى باك علوم: الحداثة والتّقليد






الحداثة والتّقليد

الحداثة تحوّل جذري على كافّة المستويات. إنّها بنية فكريّة كليّة. وهذه البنية عندما تُلامس بيئة اجتماعية وثقافية تقليدية فإنّها تصدمها وتكتسحها بالتدرّج، مُمارِسة عليها ضرباً من التفكيك ورفع القدسية.
تستخدم الحداثة أساليب فعّالة في الانتشار والاكتساح. فهي تنتقل في الفضاءات الثقافية التقليدية إما بالإغراء عبر النماذج والموضة والإعلام، أو عبر الانتقال المباشر من خلال التوسّع الاقتصادي أو الاحتلال الاستعماري أو الغزو الإعلامي بمختلف أشكاله، إلى غير ذلك من القنوات والوسائل...

وعندما تصطدم الحداثة بمنظومة تقليدية فإنّها تُولّد تمزّقات، وتخلق تشوّهات ذهنية ومعرفيّة وسلوكية كبيرة، وذلك بسبب اختلاف المنظومتين وصلابتهما. فللتّقليد صلابته وأساليبه في المقاومة والصمود أمام الانتشار الكاسح للحداثة، وله طرائقه في التكيّف معها ومحاولة احتوائها، كما أنّ للحداثة قدراتها الخاصّة على اكتساح المنظومات التقليدية وتفكيكها، ولها أيضاً أساليبها في ترويض التقليد ومحاولة احتوائه، أو استدماجه، أو إفراغه من محتواه، فالصراع بين المنظومتين صراع معقّد وشرس بل قاتل.

وكثيراً ما يتلبّس التقليد لبوس الحداثة ليتمكّن من التكيّف والاستمرار، بينما تتلبّس الحداثة بالتقليد أحياناً لتتمكّن من أن تنفذ وتفرض نفسها. وهذا التزاوج نشهده في كافة المستويات: نشهده في التلاقح بين منظومتي القيم، وفي المستوى الإدراكي، والسلوك الفردي، والاقتصاد، والسياسة...
هذه الحالة البيْنيّة هي حالة طويلة الأمد، إذ إنها لا تحسم بتحويل إرادي للمؤسسات أو للمنظومات القانونية، بل عبر تحوّلات ثقافية بعيدة المدى. وانتقال منظومة ثقافيّة تقليدية إلى الحداثة هو في الغالب انتقال عسير.
-         محمد سبيلا، "الحداثة وما بعد الحداثة"، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 2007، ص 20/21 بتصرف.







حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-