دروس جذع
مشترك علوم: النصّ الوصفيّ
تاجُ مَحَلٍّ
هذا الضّريحُ تراهُ
لأوّل مرّةٍ، كما رأيتُهُ، على النّاحيّة البعيدَة منكَ، من خلالِ بوّابةٍ كبيرةٍ
من الحجرِ الأحمرِ، فتحسِبُ أنّك فُوجئت بوهْمٍ مُستحيلٍ: إنّه طيفٌ أبيضٌ يكادُ
لا يَستَقرُّ علَى الأرضِ بينَ خُضرة حَدائِقه المسترسَلةِ، التّي تتخلّلُها سواقٍ
جارية كأنّها أنهارُ الجنّة؛ رُخامٌ ناصعٌ نحتَتْهُ يدٌ ساحرةٌ ليبدو تجسيداً لجمَالٍ
لا يُوجَدُ إلاّ في خيالٍ مَحمُومٍ. قُبّته الكبيرةُ الوُسطى تريدُ التّحليق به،
ولكنّ المنارات الأربع على جوانب فِنائِهِ تشُدّه إلى قاعِدته رَغْم القوْسِ
المدبّب للإيوان الكبير في وسطِ الواجهة، والأقواسِ المدبّبة الثمانيةِ التي رُتِّبت
في طابَقين، فتراها أربعةً على كلّ جهةٍ من الإيوان، وهي تُصوّب به إلى الأعلى –
وتُحسّ في صدرِكَ ذلك الشدّ الرائع بين السماء والأرض، ذلك التّجاذُبَ الغامِضَ
بين نقيضَي الفضاء، فلا تَستطيعُ الجزْمَ هل أنتَ سماويٌّ وجدَ مُستقرّه في عالمِ
الفناءِ، أم أرضيّ ينطلقُ نحوَ خلودٍ مَا.
ويقعُ تاجُ محلّ في هذا
السِّياق البصرِيّ والنّفسي، ولكنّه يزيدُ روعةً على كلّ الأضرِحة الأُخرى: فهو في
وسَطِ حدائِقه الرُّباعيّة التي ترمُزُ إلى حدائِقِ الجنّة ممّا يجري تحتها من
أنهارٍ، وعلى حافّة نهرِ جُمْنَه (يَمُونا) الذي يرَاهُ المرءُ يتألّق عندَمَا
يرقى الدرجات إلى "المنصّة" الرّخاميّة الفسيحة التي شيّد عليها
"التاج". وقوسُ إيوانِ المدخل الرّسمي، المؤدّي إلى العِقدِ الرّخاميّ
المقرنص، رُصفت حولَهُ، في ثلاثِ أضلُعٍ من إطارٍ شاهِقٍ، كتابَةٌ لآياتٍ قرآنيةٍ
بخطّ الثلث المتداخل. وهي كتابة بأحرف كبيرة قُدّت من رُخامٍ أسود، ورصّعت ترصيعاً
في الجدار المرمري الأبيض، فوق زخارف توريقيّة قَوامُها كلّها، كما في بقيّة زخارف
"التّاج"، حجارةٌ كريمَةٌ اشتهرت بها الهندُ، من اللازورد والعقيق
والياقوت وغيرها، ثبّتت ترصيعاً في المرمرِ المنقُور.
-
تأمّلات في بُنيان
مرمريّ – جبرا إبراهيم جبرا ، منشورات رياض الريس، لندن، 1988 ص 96/98، بتصرف.