دروس جذع مشترك آداب: النصّ السردي


دروس جذع مشترك آداب: النصّ السردي


دروس جذع مشترك آداب: النصّ السردي


الطّريق طويلٌ وأبيضٌ بينَ الأراضي المحصُودة المنحَدِرة علَى الجانِبين، والطّفل بدَا صغيراً كنُقطة..لم يكن يُحسّ بالمنجَل في يَدِه...يسيرُ وهوّ يُلوّح بهِ ولكنّه لم يكُن يُحسّه..الترابُ يبرُد..أحسّ به تحتَ قدمَيهِ الصّغيرتين ناعماً ومُدغدغا كالطّحين، والتفت وراءهُ فرأَى خطواته مطبوعةً على التراب كما هي: خُطوة وراء خطوةٍ. نظرَ إلى قدَمه اليُمنى، وضغطَ بها على التُراب، ثمّ رفعها ونظرَ إلى صُورتها المرسومة..نظرَ إلى الأصبع الكبيرة تتبعُهَا الأصابع الأربعة الصّغيرة وابتسم، كالدّجَاجة والكتاكيت. وأحسّ على جَبْهته بنسمةٍ باردةٍ خفيفة فتنهّد...كم كانتِ الشّمس حارّةً اليوم ! ورأَى شوكةً على جانبِ الطريق فأحسّ بالمنجلِ في يده...ضرَبها بقُوّة فأطارها عن جذعِها النّاحل المزغب، ثمّ عادَ فضرَبَ الجذع نفسه وأطاره. أبوهُ قويٌّ، يحصد طولَ النهار ولا يتعبُ. أحسّ بالرّاحة حين تذكّر غناء أبيه...لم يكن إلاّ دندنة خافتة تطفو فوقها مرّة بعد مرّة كلماتٌ صغيرةٌ متقطّعة: " يا للاّ...الغيَامْ...عَشْرَلافْ".


 الشّمسُ تنحدرُ نحوَ المغيب...سمعَ الطّفلُ خوارَ بقرةٍ من بعيدٍ، فالتفت ولكنّه لم يرهَا..أبوهُ حين يدندنُ في خفوتٍ لا يشعُر بأحدٍ، ينسى ما حولهٌ تماماً، وحينئذٍ يتباطأُ الطّفلُ في جمعِ حزمِ الشّعير المحصُود، وينظُر إلى الحقول الأخرى.لابدّ أن أباهُ الآن يشربُ الشّاي عند عمّته، ولن يصلَ إلى الدّار إلاّ في الظلام، ولذلكَ فلن يرَى خطوات أبيه الضاحكة على التراب المسحوق. أمّه هي التي ستَفتَحُ الباب في الليل، أمّا هو فسيكُون نائماً..وتابعَ سيرَهُ..يتابعُ ببصره سيّارة صغيرة زرقاء كانت تجري كالنّحلة مع الوادي الأخضر. لو اشترى لهُ أبوه سيّارة من الحديد لا من التراب يجرّها في ساحة الدار على عجلاتها المطّاطيّة ويجري حتى يصل المدينة. ونهضَ..الشّمس وصلت إلى الأرض..صارت حمراء كالدّم، وتراب الطريق باردٌ الآن، سمع صفيراً مُتقطّعاً، ونظرَ إلى الأمام فرأى الماعزَ يملأُ الطّريق والأطفال يركضون ويصفّرون.


لن يصل إلاّ في الظلام وانتفضَ ونظرَ إلى يدِه اليمنى فلمْ يرَ المنجل. وعادَ راكضاً..أبوه سيسلخ لحمه بالحزام الجلدي..لابُدّ أنّ المنجل ]سَقَطَ[ هُناك حيث جلس ينظر إلى السيارة الزرقاء..كان يلهَثُ حينَ رأى المنجل فالتقطه ملهُوفاً، وتطلّع إلى الطريق فلمْ يَر أباهُ، وعاد راكضاً كالجدي..بعد قليل لن يرى الطريق أمامه، والتفت إلى الوراء فلم ير أحداً، لا ينبغي أن يكون طفلاً خوّافاً..ليس هناك أحدٌ ولا شيءٌ وراءه، لينظر فقط إلى الأمام وليتابع الركض..ولكنّ شيئاً خفيّا كان يجذبه من ورائه..يجذبه بدون يد كالهواء..والتفت فرأى شيئاً عائماً ضبابيّاً يقبل وراءه من بعيد..ليس شيئاً..ليسَ شيئاً..وعاد فالتفت وراءه أيضاً، فأسرَع في الجري..وأسرع الشيء العائم الأسود وراءه. وأحسّ بأنفاسه في قفاه فصرخ والتفت مذعُوراً فرأى الشيء الأسود لا يزال بعيداً..وتابع الجري وهو يبكي في خفوت..وقبل أن يصل إلى "دار العيساوي".."يدين يدين..يدين طويلتين ناعمتين ضاحكتين..يدين حنونتين..يدين يراهما وتغيبان..يدين يدين" وانكفأ على وجهه. عثرت رجله بحجر ثابت..فسقط ببطنه على سنّ المنجل الحادّ..كان المنجل يبقر بطنه والشيء الأسود يطبق عليه..وصرخَ لحظةً..ثم غابت عنهُ الدنيا.


          أحمد بوزفور، ديوان السندباد، منشورات الرابطة، (1995) ص 76/77، بتصرف.
تعليقات