مفاهيمٌ في علومِ التربيّة
إعداد الأستاذ: عبدالرحيم دودي
1. تقديم:
سنحاولُ في هذه الورقة
الوقوف، بإيجازٍ دالٍ، عند بعض المفاهيم الرئيسة في علومِ التربية. ليس الغرضُ،
غرضنا، استجماع ركام المفاهيم وعرضها أمامكم. الهدفُ الرئيسُ إمدادكم بالمفاهيم
التي تشكّل أسَّ علوم التربيّة ستكون، في وجهٍ من وجوهها، مدار امتحان مادة علوم
التربيّة.
2.
تعريف الديداكتيك:
• حسب هاري بيرون فإن
الديداكتيك علمٌ مساعدٌ للبيداغوجيا موضوعهُ الطرائق التي تساعدُ في تدريس مادّة
معينة؛
• يرتبطُ مفهوم
الديداكتيك، حسب غاستون ميالاري، بمجموع الطرائق والتقنيات والأساليب الخاصة
بالتعليم؛
• يرى فيلب ميريو أنّ
الديداكتيك تتكون من مجموع الأساليب والطرائق والتقنيات التي تهدف إلى تعليم معارف
معينة؛
• أما محمّد الدّريج فيرى
أنّ الديداكتيك تعني الدراسة العلمية لطرق التدريس وتقنياته ولأشكال تنظيم مواقف
التعلم التي يخضع لها المتعلم في المؤسسة التعليمية، قصد بلوغ الأهداف المسطّرة
مؤسسيا، سواءٌ على المستوى العقلي أو الوجداني أو الحسي-الحركي، وتحقيق لديه،
المعارف والكفايات والقدرات والاتجاهات والقيم؛
• ورد في معجم علوم
التربيّة أن الديداكتيك ترتبطُ بدراسة المادة الدراسيّة والتفكير في بنيتها
ومنطقها، وكيفية تدريس مفاهيمها ومشاكل وصعوبات اكتسابها؛
• ويؤكّد فرانسو أوديجيي
أنه لا وجود للديداكتيك:
° بدون تفكير في المواد
الدراسية ونظرياتها الإبستمولوجيّة؛
° بدون الرجوع إلى نظريات
علم النفس المعرفي وسيكولوجية التعلم؛
° بدون الرجوع إلى سياق
المؤسسة التعليمية وأساليب عملها.
• نستشفُّ، مما سبق، أن
الديداكتيك تهتمُّ بكلّ ما هو تعليمي، فهي بذلك: تبحث في صياغة المناهج الدراسية
وما يرتبطُ بها من غايات ومضامينَ وأهداف. تهتمّ بالجانب المنهجي لنقل المعرفة إلى
المتعلّم (طرائق وتقنيات وأساليب تعليميّة) مع مراعاة خصوصيتها في عمليتيْ التعليم
والتّعلم. تتناول منطق التعلم انطلاقاً من منطق المعرفة. تركز على شروط اكتساب
المتعلّم للمعرفة الخاصة بمادة معينة. تهتم بالعقد الديداكتيكي من منطور العلاقة
التعليمية (تفاعل المعرفة/ المدرس/ المتعلّم).
3. تعريف البيداغوجيا:
• يردُ هذا المفهوم
بمعانٍ ودلالاتٍ مختلفة؛ وكثيراً ما يتمّ الخلطُ بينه وبين الديداكتيك؛ فهناك من
يرى الديداكتيك فرعاً من فروع البيداغوجيا أو العكس، وهناك من يعتبرهما مستقلين أو
متباعدين إلى حدّ التعارض في بعض الأحيان.
• ترتبطُ البيداغوجيا،
حسب ألان فيرنيو ولورانس كورني، بفنّ قيادة وتدبير القسم. أما جون ماري لابيل
فيربط مفهوم البيداغوجيا بمفهوم التربيّة معتبرا أنّ البيداغوجيا هي قيادة أو
مصاحبة من تُمارس عليه التربية، أو هي العلاقة التربوية القائمة بين المربي والشخص
الذي تمارس عليه التربيّة. وينصب التركيز هنا على الجوانب العلائقية للتعلُّم؛
• بالنسبة لأنطوان بروست
فإن محور البيداغوجيا هو المتعلم والإجابة عن مختلف الأسئلة المتعلقة به في علاقته
بالمعرفة: كيف يتعلّم؟ كيف يبني أو يعيدُ بناء تعلماته؟
° نلحظُ أنّ هذه التعاريف
لا تكشف ماهية مفهوم البيداغوجيا بشكلٍ واضحٍ، إذ يصعبُ علينا إقامة تمييزٍ دقيقٍ
بين الديداكتيك والبيداغوجيا. وفي مسعى التوضيح سنتوسل بالجدول التّالي:
البيداغوجيا
|
الديداكتيك
|
• تهتمّ بالعلاقات
العاطفية وبالمناخ الدراسي داخل الفصل، مُراعية مهارات المدرس في قيادة وتدبير
القسم؛
|
• تولي اهتماما كبيراً لإبستمولوجية
المواد المدرسة (طبيعة المعارف المدرسة)، ولسيرورات بناء المفاهيم ومعوقات
عمليات التعليم؛
|
• تركز على العلاقة
مدرس/ متعلم أو متعلم/ والتفاعلات الصفية؛
|
• تهتم بالمعارف
والتعلمات بناء وتحليلا وترتيبا ونقلا وتقويما وعلاجا؛
|
• تركز على استراتيجيات
التعلّم؛
|
• تركز على منهجيات
التعليم (ما هي الإجراءات التي يختارها المدرس بغية التعليم ولماذا؟/ كيف يتمّ
تنفيذها؟)؛
|
• البيداغوجيا ذات طابع
عام ومتعدد التخصصات، فهي تركز على المتعلم وطريقة وكيفية تعلّمه، والعلاقات
العاطفية داخل الفصل الدراسي والمناخ الذي يتم فيه التعلُّم.
|
• الديداكتيك ذات طابع
خاص، فهي تركز أكثر على المادة الدراسية، من حيث محتوياتها ومنهجيات تدريسها.
نقول مثلا: ديداكتيك اللغة العربية أو ديداكتيك الرياضيات...
|
فإذا كانت البيداغوجيا، انطلاقا مما سبق، ترتبط بالمتعلم الديداكتيك بالتعليم أو التدريس، فإن الاختلافات رغم ذلك غير واضحة. بناءً على هذا الالتباس الحاصل، ظهر الانشغال بمحاولة إبراز العلاقة بين المفهومين، وارتباط كل منهما بالآخر. فصرنا نجد في الإنتاجات التربوية المعاصرة إشارات إلى تلازم المفهومين، لحدّ اعتبار البيداغوجيا في كثير من الأحيان مجالا يشمل الاهتمامات الخاصة بموضوع الديداكتيك لكون الثانية، حسب هذه الاعتبارات، تشكل الجانب العملي التطبيقي الأولي.
ويرى عبد الرحمان
التّومي أن البيداغوجيا والديداكتيك ينتميان لحقل معرفي واحدٍ هو حقل علوم
التربية، والعلاقة بينهما تفاعليّة تكامليّة تقوم على الاندماج الخلّاق. اندماج
يمّحي معه إمكانُ الحديث عن الاستقلاليّة. إن الذين ينظرون إلى الديداكتيك بعدِّها
تخصصا مستقلاً مدعوون إلى مراجعة أفكارهم والنزول إلى الواقع الميداني الذي تمثله
الوضعيات الحقيقية للقسم للتأكد من مصداقية الرأي القائل: إنّ الديداكتيك ليس بإمكانها
تجاوز البيداغوجيا أو الانسلاخ عنها، بل هي دوماً تشتغل لفائدتها مادام المتعلّم،
في نهاية المطاف، هو المحور الرئيس للعميلة التعليمية التعلميّة. فهما، كما يؤكد
لورانس كورني، مترابطتان لا تنفصلان لكون العلاقة التي تجمعهما مركبة، ومحاولة
فصلهما عن بعض ما هو إلا نتاج الإرث المؤسساتي.
4. الديداكتيك والبيداغوجيا في سياق المثلث الديداكتيكي- البيداغوجي
يحيلُ المثلثُ
الديداكتيكي أو البيداغوجي على أقطاب ثلاثة هي: المتعلّم والمعلّم والمادة
التعليمية (المعرفة)، والعلاقة بين هذه الأقطاب علاقة تفاعلية مركبة لا يمكن فصم
عراها. ويشتغل هذا المثلث وَفق قانونِ التعاضدِ والترابطِ؛ ذلك أن التركيز على قطب
دونَ آخر يفضي بالعمليّة التعليمية التعلميّة إلى انحرافٍ أكيدٍ. وقد أكّد
"فليب ميريو" أنّ التركيز على المادة التعليمية يُفضي إلى الانحراف
المقرراتي. أما التركيز على المعلم فيؤدي إلى الانحراف الديميورجي. في حين يفضي
التركيز على المتعلم إلى الانحراف السيكولوجي.
ونسوق هنا الترسيمة
التّالية بغية توضيح العمق الإبستمولوجي لهذا المثلث وكيفية اشتغاله:
إذا كانت الوضعية التعليمية-
التعلميّة تستند إلى مثلثٍ مكونٍ من ثلاث أقطابٍ رئيسةٍ تتفاعلُ وتأثرُ في بعضها
البعض؛ فإن دور الديداكتيك والبيداغوجيا يكمن في خلق توازنٍ منطقي وفاعل على مستوى
العلاقات التي تربط كلّ قطب بالقطبين الآخرين، ودراسة التفاعلات الناجمة عنها في
إطار جهاز مفاهيمي متميز، وذلك بغرض تسهيل عمليات بناء التعلمات وتملّك المعرفة من
قبل المتعلّم.
• على مستوى العلاقة
متعلّم/ معرفة: يمكن الحديث عن: العمليات الذهنية واستراتيجيات التعلم. وكذا
العائق البيداغوجي والصراع المعرفي أو السوسيو-معرفي. ثم عن التمثلات.
• على مستوى العلاقة
متعلم/ معلم، يمكن الحديث عن: متطلبات الوضعية المشكلة. والوساطة البيداغوجية.
العقد الديداكتيكي.
• على مستوى العلاقة
مدرس/ معرفة، نتحدث عن: إبستمولوجية المادة. مرجعية المادة المعنية بالتدريس.
النقل الديداكتيكي.
5. الجهاز المفاهيمي الخاص بالتفاعلات الديداكتيكية- البيداغوجيّة
5.1. النقل الديداكتيكي
• يعرف بلونشي فليب النقل
الديداكتيكي بكونه عملية مركّبة تتطلب انتقاءَ وتكييف وتنظيم المعارف والممارسات العلمية
والاجتماعية المرجعية لتصير أهدافاً ومحتويات تعليمية تبعاً لحاجات وأشكال
التعلمات الـــمُستهدفة.
• في نفس الإطار يرى
شوفلار أن النقل الديداكتيكي عمليّة يقوم بها المعلم في مسعى تحويل المعرفة
العالمة إلى معرفة مدرسيّة. ويرفض فيرنيو هذا التعريف لما ينطوي عيله من تقليص
لدور المعلم. ويشير فيرنيو أنّ النقل الديداكتيكي هو عملية تكييف وتحويل المعرفة
العالمة إلى موضوع للتدريس تبعاً للمكان والأشخاص المستهدفين والغايات والأهداف
المتوخاة.
• يتبدى لنا أن هناك
ثلاثة مستويات للمعرفة: المعرفة العالمة، والمعرفة المدرسية، والمعرفة المدرسة. إن
النقل الديداكتيكي، بهذا المعنى، يفرضُ على المدرس إعداد دروسه معتمداً على تحويل
المعرفة العالمة مع الأخذ بعين الاعتبار التوجيهات التربوية والبرامج الدراسية
(المعرفة المدرسية)، وذلك بغرض تكييفها مع متطلبات قسمه؛ أي مع مستوى المتعلمين وأهداف
التعليم.
• ويرى الباحثون في علوم
التربية أنّ عملية النقل الديداكتيكي تقوم على مرحلتين رئيستين:
·
نقل خارجي: انتقال من
المعرفة العالمة إلى المعرفة المدرسية، وتهمّ بالأساس تحويل المعرفة العالمة إلى
برامج دراسية في إطار مناهج صريحة أو ضمنية؛
·
نقل داخلي: انتقال من
المعرفة المدرسية إلى المعرفة المدرسة، وتهم تحويل البرامج الدراسية إلى محتويات
تعليمية فعلية، والتي يتمتع فيها المدرس بهامش من الاجتهاد والإبداع.
5.2.
العقد الديداكتيكي:
• اتفاق مبرم بين المعلم
والمتعلم يتخذُ شكل ميثاق منظم لكل العلميات التربويّة. ويُبنى على مبدأ الاحترام
والمساواة والديموقراطية. إنه، بهذا المعنى، تعاقد يحدد حقوق وواجبات المتعلم.
والتي هي ليست سوى وجه آخر لحقوق وواجبات المعلم. ينبني العقد الديداكتيكي على
المراحل التالية: توزيع الأدوار والالتزام والضبط والتقويم.
5.3. الوساطة البيداغوجية:
• يعني الفضاء المادي
والذهني المتواجد بين المتعلم وبين عالم الأشياء والأشخاص الآخرين. يضطلع هذا
الفضاء بالتوسط بين العالم الذات؛ من خلال تصريفه في وحدات معنمية تيسر فهم على
ذهن المتعلم. ويرى فيكوتسكي أن سيرورات النمو الداخلي للطفل لا يمكن أن تنمو بشكل
كبير إلا من خلال وساطة الراشد أو الأقران أو هما معا، وذلك بتوظيف مفهوم
"منطقة النمو القريبة"، ويعرف هذا المفهوم باعتباره الفارق بين ما
يستطيع شخص فعله اعتماداً على قدراته الخاصة، وما هو قادر على فعله اعتماداً على
وساطة الآخر.
5.4. التمثلات
• يُستعمل مفهوم التمثل،
في مجال علوم التربية، للدلالة على مجموع المعارف والتصورات التي يملكها المتعلم،
في وقت محدد، حول الأشياء والأحداث والقوانين والمفاهيم. وتتكون بفعل تعلمات
وخبرات سابقة مرتبطة أساسا بالمحيط المباشر، ونتيجة للتفاعل المستمر مع محيطه
الطبيعي والاجتماعي. فهي بفعل ما يمسى بآلية الإرساء، تصبح جزءاً من بنيته الفكرية
والذهنية والوجدانية.
• يُشكلّ التمثل، إذا،
بنية قاعديّة سابقة لوضعيّة التعلّم، ويمكن اعتبارها معارفَ أوليّة، مُهيكلة بشكلٍ
ما، وناتجة عن تصورات لواقع أو تجارب عاشها الطفل أو خضع لها. فهذه البنية تمثل ما
يمكن تسميته بلاشعور معرفي. وبهذا الاعتبار، فإنها لا تتراءى إلا تحت تأثير تحريضي
ناتج عن وضعيّة مثيرة، عفوية أو مفتعلة.
°
إن الانطلاق من تمثلات
المتعلمين لبناء معارف ومفاهيم جديدةٍ أمر ضروري من الناحية البيداغوجيّة
الديداكتيكية، لأنها تلقي الضوء على طبيعة التصورات الذهنية القبلية لدى المتعلم،
والتي تدخل في تفاعل مستمر خلال عملية بناء المفاهيم الجديدة. ويمكن أن تتخذ
التمثلات في سياق وضعية تعليمية أوضاعاً مختلفة؛ فقد تكون صحيحة، فتشكل أساساً
لمعرفة المعرفة الجديدة، وفي هذه الحلة يتمّ تعزيزها وإغناؤها ودعمها، وقد تكون
خاطئة، فيتمّ تصحيحها وإعادة بنائها من أجل استيعاب وبناء معرفة صحيحة منظمة
ومدمجة في البنية المعرفية للمتعلم. وفي هذا المساق، يقول ريتشارد ماريو وبيسونيت:
"أنْ نتعلم معناهُ أنْ نغير تمثلاتنا إلى حين فهمنا واستيعابنا لموضوع
التعلم".