للسنة الثانية من سلك الباكالوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية
على سبيل التركيب
تتقدّم إلينا رواية اللص والكلاب باعتبارها محاكمة للواقع المصري في ظلّ الثورة.
إنها تنطلق من حدث واقعي وتحاول تصعيده، لتمثيل الواقع بكيفية مختلفة عن الطريقة
التي نهجها محفوظ في رواياته السابقة على نحو أولاد حارتنا. إنها ترمي إلى تجسيد
واقع المثقفين وأشباه المثقفين من التغيير. فبعد أن صارت فئة من المثقفين مثل رؤوف
علوان مستفيدة من الوضع وتدافع عنه وعن قيمه، وكانت في مرحلة سابقة ضد نظام الحكم
الذي كان سائداً قبل الثورة. نجد سعيد مهران، رغم أنه يقدّم إلينا باعتباره من
أشباه المثقفين، لم يدخل الجامعة، ولم يزاول عملاً يتصل بالمجال الثقافي، يعلن
بكيفية ما أنه "مثقف"
تلميذ لمثقف، وقرأ الكثير من الكتب، كما أنه في تخيل المحاكمة الذاتية، يحاكم
السادة المستشارين بوصفه مثقفا. لكن
المجتمع الثقافي في شخص رؤوف علوان يرفض الاعتراف به ويستبعد إلحاقه بفئاته
المثقفة.
كما يمكن أن نستنتج أيضا الصلة الوثيقة بين ممثلي الدولة
في شخص رجال الأمن والبوليس كيف أنهم في خدمة اللصوص: فعليش سيواصل العمل الذي كان
يقوم به مهران، ويقوم بالصفقات غير القانونية، واعتراض مهران للمعلم بياظة دليل
على ذلك. وبالرغم من كل هذا فالمخبر حسب الله يجالسه ويتكلم باسمه. إنه تحالف بين ممثل السلطة ومجتمع
اللصوص الذين يقدمون خدماتهم للدولة.
إن الفساد متواصل،
ومستمر رغم تبدل المجتمع بظهور الثورة التي يتمّ الاحتفال بعيدها كل سنة. لم يتغير
شيء، وتزداد الأمور تدهورا، ولذلك كان مهران منفعلا انفعالا لا حد له، وعمل على
المقاومة والتصدي، من باب الانتقام من جهة، ومن باب مقاومة التردي من جهة أخرى،
فتكالبت عليه العوائق الذاتية والموضوعية وكانت النهاية المأساوية.
دور نجيب محفوظ في الرواية العربية
عاصر نجيب محفوظ حقبا وأجيالا من الكتاب العرب، والتقى
مع العديد من الكتاب الكبار في الكثير من السمات والخصائص، لكنه يختلف عنهم في
الكثير منها.
لكن نقطة التميز الأولى التي وضعته في طريق التميز
الخاص، تكمن، في تقديرنا، إلى جانب مزاجه الشخصي وطريقته في العمل، في نزوعه نحو نقل الرواية العربية من
دائرة النزعة العاطفية التي كانت تلفها الرؤيات الرومانسية، إلى تمثل الواقع والاشتغال به. لقد كانت
الرؤية الرومانسية طاغية، وحتى المحاولات الواقعية الأولى المصاحبة ظلت مترددة
ومتذبذبة بين الواقع والمثال. لقد حسم محفوظ اتجاهه في الكتابة منذ البداية وهو
يتردد بين أن يكون أديبا أو مشتغلاً بالفلسفة.
في هذه المرحلة الحسّاسة قرر الحسم فاتخذ الأدب مجالا
للاشتغال، فنقله من سماوات الخيال الرومانسي والمثالي المجنح إلى أرضية الواقع
المادي.
ومن ثمة تجسدت رغبته في "كتابة تاريخ مصر" من
الفراعنة إلى العصر الحديث روائيا، كتابة تختلف عن الطريقة التي انتهجها الرائد
الأول جورجي زيدان ومن سار في فلكه.
ويبدو لنا هذا التميّز في ما يلي:
أ- نصي: ويتمثل في انطلاقه من تمثل خاص للرواية الأوروبية الكلاسيكية التي
كتبت في القرن التاسع عشر، حيث كان الروائيون مهندسين فعلاً للواقع وللحياة
الاجتماعية والنفسية.
ب-
وطني: يبرز الوازع
الوطني في انخراطه ضمن أتون الواقع المصري وإحساسه بضخامة المسؤولية تجاهه، فحاول
تجسيد ذلك من خلال الانتماء والالتزام بالكتابة. وتمت ترجمة هذه الرؤية من خلال
تصوّر محدّد يمكن أن نصوغه على النحو التالي:
الإنسان في التاريخ
هو جوهر العمل الأدبي، والمصري في الواقع هو جوهر العمل الروائي. من هنا كان البدء،
وإلى هنا كان المنتهى. تتعدد الأنواع والأنماط (مقالة وقصة ومسرحية...) وتتنوع
الحقب والفترات (أوائل الأربعينيات أو الستينات أو التسعينات...)، لكن الجوهر يظل
واحدا، وإن تعددت أغراضه وتغيرت ملامحه. من هنا يمكننا معاينة خصوصية نجيب محفوظ
على مستوى المادة الحكائية ومختلف جوانبها الحدثية والشخصية والمكانية والزمانية. فالجوهر واحد هو "مأساوية الوجود
الإنساني". لكن
الإنسان في مواجهة هذا الجوهر يتحدى ويقاوم، ويظل مقتنعا بجدوى التحدي حتى
النهاية. وقد يستسلم ويهادن أو يراوغ. لكنه في كلّ الحالات يظلّ حائراً بين
المواقف مترددا أمام شبكات المعاني والدلالات. ومن هنا نجد تعبيراً واضحا عن قلق
دائم.
نوّع نجيب محفوظ على هذا الجوهر الإنساني الذي نجده
بيّناً في كلّ أعماله، وإن تعدّدت أسماء الشخصيات، وهي تتخذ أحيانا مسميات تاريخية
أو واقعية، حقيقية أو متخيلة. إن أعماله تترابط، وإن تباعدت المسافات بينها،
وتتداخل وإن كانت على المستوى الظاهري سمات مختلفة.
تتطور هذه الأعمال مجسدة الجوهر نفسه في الزمان. وقد
تتوقف زمانا عن الصدور، لكنها حين تعاود الظهور مجددا فلكي تمنح الجوهر المشار
إليه سمات وعلامات جديدة. لذلك يبدو لنا أن أعماله المختلفة تتجافى وتتقاطع، وتعطي
لبعض النقاد إمكانية تصنيفها وتقسيمها إلى حقب ومراحل. يتميز بعضها عن بعض، لكنها
تظل في العمق واحدة ومترابطة، وإن تلونت بألوان الحياة العامة والخاصة في تقلباتها
الشكلية وتبدلاتها الظاهرية.
أثارت رواية
اللص والكلاب اهتماماً متزايداً من لدن الدارسين والباحثين العرب والأجانب. لقد
تمّ التشديد على قيمتها الفنية والاجتماعية في سياق تجربة نجيب محفوظ الروائية،
وعلى ما تمثله من نقلة نوعية في مسار الرواية العربية بأجمعها.