رواية اللص والكلاب، نجيب محفوظ: تعرّف الأسلوب

تعرّف الأسلوب في رواية اللص والكلاب، نجيب محفوظ


تعرّف الأسلوب في رواية اللص والكلاب، نجيب محفوظ

للسنة الثانية من سلك الباكالوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية


تحتلّ رواية اللص والكلاب موقعاً متميّزا في الرواية العربية، وفي روايات نجيب محفوظ. لقد وفر لها كلّ مستلزمات الرواية المتقنة الصنعة. فجعلها مركزة على بطل محوري نفذ إلى أعماقه النفسية، وحاول من خلاله تجسيد الصراع بين القيم والأفكار داخل المجتمع. كما رسم لنا صورة عن المجتمع من خلال إشارات دقيقة مركزة ولكنها عميقة.
إنّ رواية اللص والكلاب محكمة البناء وجيدة الصنعة لا يمكننا أن نحذف منها كلمة واحدة دون أن يتغير النص. وسنحاول الآن التطرق إلى ما يمتاز به أسلوب نجيب محفوظ في هذه الرواية:

أ‌-         اللغة

لغة نجيب محفوظ في كل رواياته، وهذه الرواية دالة على ذلك، لغة شفافة واضحة لا تكلّف فيها، يحرص على جعلها معبّرة من خلال إيحاءاتها الخاصة. يستعمل الروائي العربية الفصحى في الكتابة، ويوظف العديد من الكلمات والتعابير من العامية المصرية بلا مبالغة. وهذا الاقتصاد في استعمال العامية هو ما يميّزه عن بعض الكتاب الذين يكثرون منها.
يحرص محفوظ على نقاء لغته وتكثيفها. ونلاحظ أن الروائي يعطي لكل شخصية ما يناسبها من لغة حسب ثقافتها وموقعها الاجتماعي: إن نوراً لا تتكلم لغة الجنيدي ولا مهران يفهمها مثلا. وهذه الخاصية لا تتوفر للعديد من الكتاب الذين يوظفون لغة واحدة ويعممونها على النصّ بأكمله. ولذلك نجد رمزية الحيوان، باعتباره لغة، خالصة لسعيد مهران، يوزعها على خصومه، ويعبّر من خلالها عن نفسه. ولقد نجح محفوظ في توظيف هذه اللغة توظيفاً دقيقاً.

ب‌- الحوار

وظف الروائي السرد في تقديم المادة الحكائية من منظور الشخصية الروائية: سعيد مهران. ولكنه، لم يكتف بذلك، فاستعمل الحوار بين الشخصيات للمزيد من إلقاء الضوء على عوالم الرواية.
إنّ أوّل نوع من الحوار الذي نجده مهيمناً في الرواية بكاملها هو الحوار الداخلي. يبرز لنا هذا الأسلوب التعبيري في اللحظات التي يكون فيها المبئر (سعيد مهران) موضوعاً للتبئير، أي نرى من خلاله أشياء الرواية وشخصياتها، ويتحقق ذلك في اللحظات التي يكون فيها متوجها نحو شخصية ما (عليش أو علوان) في بداية الرواية، أو عندما يخلو إلى نفسه ويكون وحيداً، يفكر في ما جرى لنور مثلا. في هذه اللحظات يعمل الراوي على تقديم الحوار الداخلي لمهران، باستعمال ضمير الغائب ممتزجاً بضمير المتكلم.
تتميز الحوارات بالقصر والتكثيف، وتخلو من الإسهاب والكلام الذي لا فائدة منه أو فيه. إنها تعبر بدقة عن أفكار ومشاعر الشخصيات، وثقافتها. ويكفي أن نتأمل الحوارات التي جرت بين مهران والجنيدي لنجد أن كل شخصية تتحدث بلغتها الخاصة، الشيء الذي حال دون التواصل بينهما. إنّ كلا منهما منشغل بهمومه، ويمثل رؤية خاصة للأشياء والعالم، وحين يتحادثان كلا منهما ينطلق مما يستحوذ على اهتمامه: فمهران مشغول بما يجري من حوله: خيانة أو إنكار البنت له أو ارتكاب جريمة... لكن الجنيدي يجيبه عن أسئلته، وقد صعّدها لتتجاوز الظرفي وتعانق المطلق. إن اللاتواصل بين الشيخ الجنيدي ومهران مردّه إلى أن سعيد مهران يريد لغة مباشرة وصريحة تفرج عنه، وتجعله مطمئنا أكثر، ولكن الشيخ أبى إلا أن يخاطبه بلغته الخاصة عسى أن يرتقي إلى فحواها ويدرك أسرارها، فتوجهه وجهة مختلفة. ولا شك أن مهران كان لا يخفى عليه عمق العبارة الجنيدية، ولكنه لم يكن يريد هذه الإجابات التي تعاكس مشاعره. ولذلك كان يقابلها بالابتسام.

ج- أسلوب المحاكمة

إلى جانب الحوار باعتباره مكوّناً أساسيا من مكونات الأسلوب الروائي، نجد نجيب محفوظ يوظف تقنية أخرى تتمثل في الحوار الذاتي الذي يتخذ شكل المحاكمة، ومن خلاله تتبدى لنا أفكار الشخصية بطريقة ذاتية، فيها الاعتراف، والنقد الذاتي والدفاع عن النفس أيضاً. بعد الجريمة الثانية، وإحساس مهران بأنه قتل بريئا آخر، انهارت نفسيته، وتمثل نفسه في قاعة المحكمة.
إنّ أسلوب المحاكمة يقدم لنا طريقة أخرى للتعبير عن الذات من خلال الحوار الذاتي. إن مهران هنا، يفكر بصوت مرتفع، ويعمل على إقناع نفسه وتبرير كلّ ما قام به، باحثاً له عن مسوغات عمله.
وتصل أقصى درجات التعبير الذاتي التي يحوّل بها نفسه من ظالم إلى مظلوم، باحثا، ببلاغة، عن الحجة الدالة على صحة موقفه، محاكما بذلك من يعمل على الإمساك به والحكم عليه:
"إنّ من يقتلني إنما يقتل الملايين، أنا الحلم والأمل وفدية الجبناء، وأنا المثل والعزاء والدمع الذي يفضح صاحبه." ص 106.

د- بنية الحلم وخطاب الغيب

تأتي بنية الحلم لتتكامل مع السرد الذي يوظفه الراوي من خلال تبئير سعيد مهران، والحوار الذي يتبادله مع الشخصيات، وأسلوب المحاكمة، لتسهم بدورها في جعلنا نتلقى نص الرواية بتنويع أسلوبي يجسد لنا هواجس الشخصية المركزية أو من يتصل بها (نور على وجه الخصوص).
الحلم: يعاني البطل سعيد مهران، بصورة خاصة بعد إقدامه على ارتكاب جريمتيه، بالرزوح تحت وطأة الأحلام والكوابيس. وإذا كان الحلم، لغة، يتصل باللاشعور، فهو يجسد لنا، بكيفية مختلفة عن الحوار أو الحوار الداخلي أو الذاتي، رغبات الشخصيات الباطنية وآلامها ومعاناتها. لقد مكنت بنية الحلم في بعده "اللاواقعي" الروائي من الإبداع بعيداً عن إكراهات الواقع، فجعلته يقدم لنا كل المعلومات المتصلة بالمادة الحكائية وكل الأحاسيس المتصلة بالشخصية المحورية من خلال توظيف هذا الأسلوب.
خطاب الغيب: يظهر لنا هذا الخطاب من خلال شخصية نور. إن حبها لمهران جعلها تبذل أقصى ما يمكن من الجهد لتغيير مسار حياته بواسطة الحب، وبواسطة الترغيب والترهيب.
لا يختلف خطاب الغيب عن الحلم. إنه تنويع أسلوبي على الأساليب التي استعملها الروائي لتقديم عالم القصة. ونتبيّن من خلال خصوصية هذين الخطابين (الحلم والغيب)، أنهما، فنيا يتكاملان مع باقي الخطابات في تشخيص الأوهام والأحلام التي تعتور الشخصيات المحورية والأساسية في الرواية.

ه- سجلات اللغة

تتعدّد روافد اللغة التي وظفت في رواية اللص والكلاب لاعتبار جوهري، يكمن في الطريقة التي كتبت بها. لقد ركّز الراوي على الشخصية المحوريّة (سعيد مهران)، وجعلنا نتلقى العالم من خلال رؤيتها. وتركها تتحرك بحرية، ولا يعمل على نقل إلا ما تراه وتسمعه هذه الشخصية، بطريقة موضوعية. لذلك فعندما يكون البطل مع الشيخ الجنيدي فإننا نتلقى ما يتلقاه سعيد، ولم يتدخل السارد نهائيا لإيضاح ما غمض عليه. لذلك تتعدد السجلات اللغوية وتتعدد بتعدد الشخصيات. وأهم هذه السجلات هي:
لغة سعيد مهران: إنها لغة قاسية وعنيفة وساخرة وذات حمولة تتصل بماضيه كلص محترف ورجل له مكانة وشخصية قوية. يبدو لنا ذلك في كثرة سبابه الجارح وهو يصف أعداءه رابطا إياها بعالم الحيوان (الرمزية الحيوانية)، أو في تعريضه وسخريته المبطنة التي أزعجت علوان أو في أحاديثه مع نور. إنها لغة الشطار والمعلمين وكبار اللصوص المحترفين. ونجد جزءا من هذه اللغة عند عليش ورجاله ولمعلم بياظة، وطرزان وإن كانت أقلّ عنفا من لغة مهران.
اللغة الصوفية: يبدو لنا هذا السجل خاصة مع الشيخ الجنيدي. إنها لغة ذات مسحة دينية، تتناص مع القرآن الكريم، ويغلب عليها الإيحاء الذي يسلب عنها بعدها الدنيوي ويمنحها شحنة دينية أخروية خالصة. لذلك كلما تحدث مهران عن سجن أو أوغاد، كان الشيخ الجنيدي يقصد سجنا آخر غير مادي، وعن الوغد بأنه النفس الأمارة بالسوء، وهكذا.


اللغة الشعبية: لم يكثر الروائي من استعمال اللغة العامية، ولكننا في اللحظات التي وظفها فيها، باقتصاد كبير، كنا نلمس خصوصية السجل المنطلق منه.
اللغة القانونية: ويمكن التمثيل لها بلغة علوان الذي كان يحاجّ مهران بالقانون، أو في نداء البوليس وهم يطلبون من مهران الاستسلام ليقدّم للعدالة.
تختلف هذه السجلات عن بعضها البعض، ويمثل كل منها رؤية خاصة للعالم، تنبني على واقع هذه الشخصيات وكيفية تعبيرها عنه. ولذلك فهي تستمد شحنتها من طبيعة هذه الشخصيات وتميزها.

و- رؤيات العالم

بناءً على ما رأيناه حول العوامل ومواقفها الاجتماعية وتبدلاتها وسجلاتها اللغوية يمكننا ترتيب رؤياتها كما يلي:
الرؤية الدينية: ونسجلها في أبرز صورها مع الشيخ الجنيدي ومريديه. إنهم يتعاونون في ما بينهم، ويمارسون الصلوات في أوقاتها وحلقات الذكر. وكل همهم الارتقاء بأحاسيسهم وتصعيدها إلى مستوى يتعدى الانشغال بالحياة الدنيا. ويجسد الشيخ الصورة المثلى لهذه الرؤية: فهو يتعاطف مع مهران ويقدم له الطعام. يفكر في هدايته بمطالبته بالوضوء والصلاة، ولم يبلغ عنه البوليس رغم علمه بالجريمة.
الرؤية الانتهازية: تبدو لنا بجلاء في موقف الشخصيات العدوة. فهي تبرر سلوكها وتقتنع بأن ما تفعله هو الصحيح، وإن كان على حساب المثل والأخلاق. فعليش يتزوج نبوية بعد تطليقها من زوجها، وهو الذي كان السبب في دخوله السجن. ومع ذلك يدعي أنه يقوم بالواجب. ونجد الشيء نفسه مع علوان؛ لقد غير موقفه، وتخلى على حسّه النضالي السابق. ومقابل حياة رغدة، يتجنب الكتابة في المواضيع الحساسة، واتجه إلى الاهتمام بموضوعات تتعلق بموضة النساء.


الرؤية العبثية: ويجسدها مهران، ولا سيما بعد اقتناعه بضرورة الانتقام من أعدائه، بحيث لم يعد يرى للحياة أي قيمة: لقد ضاع المال والزوجة والبنت. وليس هناك عمل، ولا مستقبل. الحياة كما كرر تجسيد للعبث. وحتى عندما تطيش رصاصاته ولا يموت غير الأبرياء يبدو لنا العالم بلا قيمة، لأن كلّ شيء هو لفائدة الانتهازيين والخونة. فهم المستفيدون من الحياة، وحتى الموت الذي يسلطه عليهم يفر منهم ليلقاه أبرياء بدلاً منهم. يعي سعيد مهران بحياته العبثية، ويرى أنها ستنتهي لما يقتل عدوه علوان.
الرؤية الشعبية: وهي التي تبدو لنا لدى الأوساط الشعبية. إنها مغلوبة على أمرها، وليس لها من هدف في الحياة سوى تدبير شؤونها بالاعتماد على نفسها، ونور خير مثال على ذلك. ولهذا فهي عندما التقت بسعيد مهران، تشبثت به، آملة تغيير حياته بواسطة الحب، والتفكير في الهرب لبدء حياة جديدة. كما نجد أصداء أخرى من هذه الرؤية لدى الجماهير وهي تتابع حياة مهران من خلال الصحافة: لقد عبرت عن تعاطفها معه لأنه يسعى إلى الانتقام محلها من الانتهازيين والخونة، وهم أعداؤهم أيضاً. لكن هذا التعاطف الممزوج بالانتظار، كان محاطا بنوع من التندر الذي كان يخفي في العمق أن الخلاص مستحيل من جراء مثل هذه الأفعال العبثية.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-