تحليل البعد الاجتماعي والتاريخي في رواية اللصّ والكلاب

تحليل البعد الاجتماعي والتاريخي في رواية اللصّ والكلاب، نجيب محفوظ


تحليل البعد الاجتماعي والتاريخي في رواية اللصّ والكلاب، نجيب محفوظ

للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية


-        التفاوت الاجتماعي

تتقدّم إلينا الرواية كوثيقة نفسية لشخصية بطلها المحوري، وهي بذلك أيضا، تقدم لنا صورة دقيقة عن المجتمع المصري بعد حوالي تسع سنوات من قيام ثورة الضباط الأحرار بزعامة جمال عبد الناصر سنة 1952. ويظهر لنا من خلال شخصيات مجتمع الرواية أن التفاوت الاجتماعي مهيمن إلى حدّ كبير، وأن اصطفاف هذه الشخصيات مع أو ضد سعيد مهران، إنما يتمّ وفق هذا الموقع الاجتماعي. فهناك من جهة الأغنياء الذين اعتاد مهران سرقتهم قبل دخول السجن لأنه يرى أن سبب ثرائهم يعود إلى سرقتهم مجهودات الآخرين، مبررا بذلك عمله. ويبدو لنا ذلك واضحا من موقفه من الشاب ابن صاحب مصنع الحلوى. إن كلّ هؤلاء الأثرياء لصوص وخونة والدولة تساندهم وتدافع عنهم.
وهناك من جهة أخرى فئة كسبت الثروة بواسطة الخيانة والانتهازية (عليش وعلوان). وصارت لها مكانة اجتماعية. وهناك ثالثا فئات شعبية هامشية تعيش على الهامش حياة بسيطة ومتواضعة. ويمثلها الجنيدي ونور. ويمكن اعتبار  طرزان صاحب المقهى الشعبية ضمن هذه الفئات الشعبية.


هذا التفاوت الاجتماعي جعل الأغنياء اللصوص والخونة يعيشون في ثراء فاحش بسبب قربها من النظام السائد وخدمتها له. هذا النظام الذي يتأسس على المخابرات التي تلعب فيه دورا كبيرا، ويبدو لنا ذلك بجلاء في إحدى تصريحات المعلم طرزان الذي يؤكد التحول الذي طرأ، حيث صار الجميع وكأنهم موظفو الحكومة، في إشارة إلى اندساس المخابرات في كلّ مكان.
بالرغم من كون الشخصيتين (عليش وعلوان) من أصول شعبية، فإنها استطاعت بانتهازيتها وخيانتها الاستفادة الاجتماعية، فأصبحت تحتلّ موقعا هامّاً في المجتمع. أما الشخصيات التي تحافظ على كرامتها، فلا يمكنها إلاّ البقاء على الهامش.

-        التراتبيّة الاجتماعية

أمام هذا الوضع الذي تستفيد منه طبقة من الخونة والانتهازيين، نجد التراتبية الاجتماعية تسود فيه بشكل كبير، وهي مظهر من مظاهر ذاك التفاوت الاجتماعي، حيث تسعى، في ظله، كل فئة أو طبقة اجتماعية إلى تنظيم حياتها وتأمينها بكيفية جماعية تقوم على التراتبية داخلها. تبدو لنا هذه التراتبية على النحو التالي:
المؤسّسة الرسميّة: وتتقدم إلينا من خلال الإعلام والأمن: فالمثقف والصحافي علوان والمخبرون ورجال الأمن والبوليس يعيشون في إطار مؤسسات رسمية للإعلام والأمن. وهم يطبقون التعليمات كلّ بطريقته الخاصة. وتتمثل في تبرير النظام أو مطاردة معارضيه. ونجد علوان والمخبر ورجال الأمن جزءاً محوريّا من هذه المؤسسات الرسمية.


الشيخ والمريدون: لقد اختار المريدون حياة خاصة تقوم على ممارسة الذكر، وخلق فرص للتعاون والتآزر فيما بينهم لمواجهة مصاعب الحياة المادية، ما دامت الدولة لا توفر لهم مستلزمات الحياة: فالمريدون، مثلا، هم الذين قاموا بتجديد حصير المقام، ومكان لقاءاتهم لم يتغيّر أبداً. وعلى رأس المريدين نجد الشيخ الجنيدي الذي يمثّل الأب الروحي للجماعة.
المعلم ورجاله: وهناك أخيرا فئة اجتماعية أخرى، وتبرز في علاقة المعلم برجاله وأتباعه. ويتقدّم إلينا سعيد مهران قبل السجن نموذجا لذلك، وعليش سدرة الذي انقلب عليه واحتلّ مكانته. إن المعلم يقوم بما يقوم به الشيخ بكيفية مختلفة. إنه ينظم حياة مجموعات من الرجال الذين يشتغلون معه في الاتجار بالممنوعات والمخدرات أو السرقة. وعلى هامش المعلم ورجاله، تعيش فئات اجتماعية خاصة كالعاهرة نور مثلا. وهذا النوع الأخير يمثّل هامش الهامش لأنه بلا نصير ولا معين.
هذه التراتبية الاجتماعية تضعنا أمام:


     المؤسسة الرسمية: الدفاع عن النظام؛
    الجماعات الاجتماعية الدينية: مؤسسات شعبية للتآزر والتعاون ومواجهة صعوبات الحياة عن طريق التطهير الروحي.
  الجماعات الاجتماعية الهامشية: تمارس أشكالا من الأفعال المتعددة لضمان الحياة، وإن كانت هذه الممارسات غير مشروعة ولا أخلاقية.

حين يخرج سعيد مهران من السجن يجد نفسه أمام العالم كما تركه، لكن الجديد الذي طرأ هو ظهور هذه الفئة من الخونة والانتهازيين الذين تغيروا بسرعة نتيجة ذلك واحتلوا موقعا في المجتمع (عليش، علوان). ولذلك عمل على خوض معركة لا هوادة فيها ضدها. وأمام هذا الموقف نجد اصطفاف الفئات يتحقق بناء على مصالحها الخاصة: فالمؤسسة الرسمية ستواجهه وتتصدى له لأنه يشكل خطرا عليها، والجماعات الاجتماعية الدينية (الجنيدي) والهامشية، والجماهير الشعبية ستؤازره، ولكنها لا توافقه على سلوكه.


-        صراع القيم

لقد أدّى هذا التفاوت الاجتماعي وتلك التراتبية الاجتماعية إلى تبدل القيم وتصارعها: فهناك من جهة القيم الأصيلة القائمة على الثبات ونجدها عموماً لدى الفئات الشعبية (الجنيدي ونور وطرزان). وهناك من جهة ثانية القيم الزائفة التي تنهض على الخيانة والانتهازية وتمثلها شخصيتا عليش وعلوان اللذان تنكرا للقيم والمبادئ التي يحملانها، وانضما إلى الطبقات الغنية.
ولما كان سعيد مهران يرى نفسه ممثلا للقيم الأصيلة وظلّ ثابتا في موقفه من الأغنياء اللصوص فإنه سيعمل على مواجهة المتنكرين للقيم الأصيلة، ويكون عدواه الأساسيان عليش وعلوان، انتصارا منه لقيمه ومبادئه. ولهذا السبب نجد رمزية الحيوان موجهة لهذه الفئة التي ليست في نهاية المطاف سوى حيوانات قذرة: إنهم كلاب.
لكن الصراع غير متكافئ بين اللصّ صاحب المبادئ والقيم، والكلاب الذين تنكروا لماضيهم (لقد كانوا ضد الفساد واللصوص الأغنياء أي الكلاب)، وبذلك انضموا إليهم وصاروا كلابا مثلهم.


-        الخلفية الاجتماعية والتاريخية

لقد استوحى نجيب محفوظ مادته الحكائية، كما يؤكد العديد من دارسي هذه الرواية من واقعة حقيقية للسفاح محمود أمين سليمان الذي روّع القاهرة في أواخر الخمسينيات، والذي أصبح بطلا في أعين كثير من المصريين لأنه دوّخ البوليس حتى تم قتله أثناء المطاردة. شكلت هذه الواقعة الحقيقة خلفية اجتماعية لرواية اللص والكلاب، واستمد منها الروائي ما يمكنه من التعبير عن رؤيته للمجتمع المصري في حقبة تاريخية محددة: بعد الثورة.


لكن نجيب محفوظ أحسن استثمار هذه المادة ليقدم في آن واحد، انتقاداً للنظام، وللحركة المناهضة في الوقت نفسه، وكان أن قدم لنا ذلك من خلال رؤية فنية متميزة تعبر عن قدرة فائقة في التقاط تناقضات المجتمع المصري من خلال فترة ما بعد ثورة يوليوز 1952.



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-