الكشف عن البُعد النّفسي في رواية اللصّ والكلاب



الكشف عن البُعد النّفسي في رواية اللصّ والكلاب، نجيب محفوظ


الكشف عن البُعد النّفسي في رواية اللصّ والكلاب، نجيب محفوظ

للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية


سعيد مهران شخصيّة محوريّة، وفاعل أساس، وعامل ذات ومرسل. إنه الرواية كلّها، هو المبتدأ والمنتهى. لذلك لا غرابة أن تبدو لنا الرواية وثيقة نفسية تبرز لنا المجال النفسي الذي يتحدد من خلاله هذا البطل/اللص منذ خروجه من السجن إلى حين استسلامه، وتجعلنا بذلك نتعرف ملامحه النفسية في ذاته وفي علاقاته بباقي الشخصيّات العدوّة والمتعاطفة.
- نفسية سعيد مهران
يتضح أمامنا البعد النفسي لشخصية سعيد مهران من خلال مرحلتين اثنتين:

أ‌-                      مرحلة ما قبل السجن

 رغم أن هذه المرحلة لم تقدّم إلينا في الرواية بما يكفي من المعطيات، يمكننا الانطلاق من بعض الشذرات المتصلة بها لاستخلاص ما يساعدنا على تشكيل الصورة النفسية للبطل قبل دخول السجن، ليتأتى لنا، بعد ذلك، معاينة الصورة نفسها وقد اتخذت أبعادا أخرى بعد الخروج من السجن.
كان سعيد مهران، قبل دخول السجن، "معلما" له أتباع ومن بينهم عليش سدرة، وزوجة جميلة هي نبوية، وطفلة تعيش في أحضان المعلم الذي كان يعيش في بحبوحة من الغنى. وبسبب تكوينه الثقافي البسيط ووعيه الذي راكمه من خلال حياته في بيت الطلبة، وتتلمذه عند الطالب الثوري رؤوف علوان، الذي كان يسوّغ سرقاته، ويبررها نظريا بأنها مشروعة لأن الأغنياء يسرقون دماء الشعب. إنه، في ممارسته هذا العمل، مناضل على طريقته الخاصة. ولا شكّ أنه، بهذا التسويغ والتبرير، يقنع نفسه بأن عمله سليم، وإن كان يعرّضه لمتابعة البوليس. لكنه في الجانب الذي يمكن أن يخلق لديه نوعا من التوتر أو القلق، كان يعول على مهاراته في الإفلات من قبضة البوليس.
في هذا الجو الذي يحتلّ فيه مهران مكانة خاصة وسط رجاله، كانت علاقته طيبة مع الجميع: زوجة مطيعة، وتابع أمين، ورجال في الخدمة. ونستشعر أن علاقته برؤوف علوان كانت ما تزال قويّة. أما الجنيدي، فقد انقطعت به الصلة (ست سنوات قبل دخوله السجن)، بينما المعلم طرزان ورجاله كانت العلاقة بينهما قوية.

شخصية واحدة، من شخصيات الرواية، لم تكن علة وفاق مع مهران هي: نور. كانت تحبه. ولكنه كان يعرض عنها ويتجنبها. ولا شك أن هذا الإعراض سيخلق نوعا من التوتر في العلاقة.
يمكننا أن نستنتج أنه كان يعيش مطمئنا نفسيا مع ذاته ومع زوجته ورجاله وأصدقائه. ولعل نوعاً واحدا من الناس كان يكرهه في حياته، يتمثل في الأغنياء الذين كان يخطط لسرقتهم، وشيئا واحدا كان ينغّص عليه راحته، هو بحث البوليس عنه.


ب‌-                مرحلة الخروج من السجن
لقد قفزت الرواية عن مرحلة السجن، ولم تهتم كثيرا بتقديم تفاصيل عن حياة سعيد فيه، إلا ما اتصل منها بـ"آثارها النفسية" عليه وهو حديث الخروج، فأفقدته آداب السلوك، وجعلته متوترا في تصرفاته وأحاديثه.
ستتناوب مشاعر شتى في الحياة النفسية لمهران بعد خروجه من السجن، ويمكن تحديدها من خلال هذه الأحاسيس الآتية: الكراهية والمحبة والندم.
الكراهية: خرج سعيد مهران عصبيا متوترا حادّ المزاج، يشعر بالوحدة والعزلة وانعدام الأمان إذ لم يستقبله أحد وقت خروجه. وهو يعود إلى حيث عليش لا يرى من الأعين إلا الريبة والحيطة، ورغم الترحيب الشكلي كان يدرك أن الجميع ضده. فكان الشعور الطاغي لديه هو "الكراهية" لمن أحبهم وأحبوه، وانقلبوا عليه وسلبوه كل مقومات حياته وسعادته. هذه الكراهية جعلته يفكر في الانتقام منهم: من نبوية وعليش في مرحلة أولى، وبعد انتهاء زيارته لعلوان تولد لديه الشعور نفسه حياله، فجميع الشخصيات الثلاث في سلة واحدة، وصارت عداوته لهم لا تطاق، ورغبته في الانتقام منهم لا حد لها.
صارت الكراهية الإحساس الأساس الذي يسيطر عليه، وأعمت الرغبة في الانتقام عينيه عن رؤية ما خلا ذلك.

كراهية المرأة: صارت كلّ امرأة بالنسبة إليه نبوية (خائنة). وكلّما رأى امرأة ذكرته بها.
كراهية عليش وعلوان: لقد ولدت كراهيته لعليش وعلوان أن صار لا يرى من هدف في الحياة غير الانتقام منهما. وهذه أقصى درحات الكراهية والحقد. ورغم محاولات الشيخ الجنيدي تهدئة روعه، وتغيير سلوكه بدعوته إلى اتباع الطريق القويم، وتنبيهات المعلم طرزان بعدم التعرض لمن لهم موقع في المجتمع، ومحاولات نور المتكررة دفعه إلى التخلّي عن قراراته، ظلّ متمسّكا بكراهيته وعدوانيته ورغبته في الانتقام.
إن الخيانة غيّرت أحاسيس مهران، وجعله السجن، لأنه جاء نتيجتها، يمقت كل شيء، ويكره أعداءه المباشرين، وكل من يتصل بهم. صار شخصا بلا قلب. وصار العنف موجها نحو أعدائه ولا يمكن أن يهدأ له بال إلا بالقضاء عليهم.

المحبة: تظهر لنا الكراهية بجلاء وبقوة على طول الرواية. لكن مهران لم يكن بلا قلب كما تدّعي نور، أو كما يؤكد هو نفسه ذلك على اعتبار أن السجن غيّره، والخونة والكلاب دفعوه إلى ذلك دفعا.
إن في قلب مهران متسعا للمحبة. وهي تتحق بوجه خاص حيال المرأة التي عبّر مراراً عن كراهيته المطلقة لها، ولم يعد يثق بها أبدا. يبدو ذلك بصورة خاصة مع ابنته سناء التي كان يرى أنها أنكرته. لقد ظلت تشكل دائما بالنسبة إليه موضوعا يشغل البال. ونجد الشيء نفسه مع نور، فعندما ضربها الطلاب، واختفت عن أنظاره صار يرى فيها ابنته سناء، وودّ لو يفديها بروحه، وتبين له في النهاية، وهو قريب من المشنقة، أنه يحبها.
نلاحظ بجلاء تغير مهران حيال نور. إنه يراها امرأة بلا نصير في خضم الأمواج العاتية واللامبالية. إن لمهران قلبا ينبض بالحبّ أيضا، تجاه الكائن الضعيف (المرأة التي لا نصير لها) وهو في لحظة الضعف (قرب لحظة الاستسلام). ولا يمكن لهذا الإحساس إلا أن يولد لديه الغضب، لينتقم للضعيف. أما محبته الشيخ الجنيدي والمعلم طرزان فقد ظلت متواصلة لأنها لم تتغير عكس ما وقع خاصة مع رؤوف علوان الذي كان يحبّه محبّته للشيخ.


الندم: شعور آخر كان ينتاب سعيد مهران، إلى جانب ما ذكرنا، وكان يعاني منه أشدّ المعاناة، ويضاعف من كراهيته حنقه على أعدائه، وهو المتمثل في قتل البريئين. لقد كانت هذه العملية تخلق لديه شعورا بالذنب العظيم، وتضاعف آلامه ومعاناته، وعقب كل عملية قتل كان يصرخ "اللعنة"، ويعتبر ما يقوم به جنوناً.
إن النّدم شعور قوي يبين الإحساس الحقيقي الذي ينتاب مهران، بسبب رصاصاته العمياء، ويخلق لديه المزيد من المعاناة. إن مهران يرى أنه على صواب، فيما يأتيه من أفعال، وعلى الخونة أن يموتوا، ويبرئ ساحته من دماء البريئين، ولكنه في قرارة نفسه، يتألم لمصيرهما بسبب الخونة والمجرمين الكلاب.
هذه الأحاسيس تبين لنا أن سعيد مهران ليس شخصية نمطية: فهو يكره المجرمين والخونة، ويتألم لمصير الضعفاء والأبرياء. إنه ليس مجرما ولا سفاك دماء، كما يسعى علوان إلى تقديمه في جريدته. وتأتي الأحلام التي كانت تراوده بين الفينة والأخرى، والمحاكمة (الفصل الخامس عشر) التي "تصورها" للتدليل على مشاعره المتناقضة، وإحساسه بأنه مظلوم، وأن الخونة والانتهازيين هم المسؤولون عن معاناة الأبرياء والضعفاء.

تتطور المشاعر والأحاسيس المتناقضة لدى سعيد مهران مع تطور الأحداث: لقد كان يعرض عن نور، ولكنه صار يحبها، تماما كما كان يحبّ علوان، وعندما عاين حياته الجديدة كرهه كرهاً مطلقاً.
إن الإحساس بالخيانة والتفكير في الانتقام – تحت وطأة الاضطراب النفسي – أعمى البطل عن استعمال العقل، فكان يتصرّف تصرف المجنون أو المخبول. إن دوار الرأس، والحالة غير الطبيعية وعقلية السجن، وكل المضاعفات التي ولدتها لديه المطاردة، والاختباء من سهاد ووحدة وقلق، كلها كانت وراء كبواته وإخفاقاته. لقد ولّد هذا الاضطراب النفسي لديه سلوكا عدوانيا جعله يتصرّف كـ"المجنون".
تغييب العقل (عن طريق نسيان الثقافة وإهمال الكتاب) والارتهان إلى القوة والمسدس، مع الوقوع تحت تأثير الاضطراب النفسي، لا يمكن إلا أن يؤدي إلى فشل رهان البطل وعدم نفاذ البرنامج الحكائي (الانتقامي) وفق رغبته أو طموحه.

-         نفسيات الشخصيات

لم تحظ الشخصيات الأخرى بتحليل مشاعرها وأحاسيسها على نحو ما تم بالنسبة لسعيد مهران للأسباب التي أتينا على ذكرها. ومع ذلك فالمجال النفسي لهذه الشخصيات واضح من خلال علاقتها بمهران.
إن الشخصيات العدوة تكره مهران تماما كما يكرهها، وهي في الوقت نفسه تخاف منه لأنه يتربص بها. كانت عقدة التابع (عليش) الجوهرية هي التخلص من المعلم والاستيلاء على أمواله وممتلكاته. كما أن علوان لا يريد مساعدة مهران ليكون معه في الجريدة لأنه يعرف ماضيه جيدا. إنها مشاعر يمتزج فيها الحسد (عليش) بالحقد والخيانة. ولقد أدت كل هذه المشاعر إلى الإطاحة بسعيد مهران والانقلاب عليه.
كان علوان يرى أن مهران يشكل خطرا عليه لأنه سيفضح ممارساته المشينة السابقة، ولذلك ما أن أعطاه مهران الفرصة بمحاولة قتله حتى كرّس كل جهوده لتأليب الرأي العام ضده. أما الشيخ والمعلم طرزان فلم يتغيرا تجاهه، وظلا يقدمان له كلّ الدعم. وكذلك نور التي ظلت وفية لحبه وصادقة في مشاعرها معه. لكن هذه الشخصيات المساعدة له، لم تكن تتعاطف معه عندما كان يمارس القتل، بل كانت ترفضه.

لكن، إلى جانب هذه الشخصيات المساعدة والرافضة لسلوكه، نجد شخصيات أخرى تم الحديث عنها، وهي الجماهير الشعبية، أو ما كان يسميها مهران بـ"الملايين" التي كانت تتخذ موقفا نفسيا آخر مختلفا عن مواقف الشخصيات العدوة والمتعاطفة. إنه موقف التعاطف معه، والتأييد له، وإن كان أحياناً مشروطاً.


بين أحاسيس الكراهية والرفض والتعاطف نجد الشخصيات جميعها تتخذ مواقفها النفسية حيال سعيد مهران لأغراض محددة يعيّنها واقعها النفسي وانتماؤها الاجتماعي. فالذين يكرهونه ويتمنون القضاء عليه لهم مصلحة خاصة في ذلك، والذين يريدون منه اتخاذ مواقف الحكمة والهداية، يريدون مصلحته، والذين يتعاطفون معه يجدون في أفعاله مادة للتسلية أو موقفا ينتصر لهم مادام يواجه أعداءهم: الأغنياء (أي أعداءهم الطبقيين).



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-