منهجيّة المسرحية: تحليلٌ منهجيٌّ لمسرحيّة كأس قهوة | محمد تيمد


منهجيّة المسرحية : تحليلٌ منهجيٌّ لمسرحيّة كأس قهوة | محمد تيمد

منهجيّة المسرحية : تحليلٌ منهجيٌّ لمسرحيّة كأس قهوة | محمد تيمد


للسنة الثانية من سلك البكالوريا | مسلك الآداب والعلوم الإنسانية   





على الرغم من أنّ المسرح يعدّ من أقدم الفنون؛ حيث ازدهر في الحضارات القديمة، كالحضارة اليونانية والرومانية والفرعونية... فإنه لم يظهر بمفهومه الدقيق في الحياة الثقافية العربية إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، نتيجة الاحتكاك الثقافي مع المسرح الأوروبي. أما في الثقافة المغربية، فإن هذا الفن لم يظهر إلا في بداية الثلاثينيات، هذا إذا استثنينا حسب الباحث المغربي الدكتور حسن المنيعي، بعض الظواهر ما قبل المسرحية، مثل : البساط، والحلقة، وحفلات سلطان الطلبة... ومن هنا عرف المغرب - خاصة في مرحلة ما بعد الاستقلال - ظهور أسماء لامعة ساهمت بشكل كبير في تطوير المسرح المغربي، نذكر منها : الطيب الصديقي، وأحمد الطيب العلج، ومحمد الكغاط... ويعد كاتب هذا النص "محمد تيمد" (1939- 1993م) من أشهر الأسماء التي أغنت المشهد الثقافي في المسرح المغربي، وذلك من خلال جملة من الأعمال المسرحية، منها : "الأحذية الدامعة"، و"كان يا ما كان"، و"الزغننة"، و"كاهنة المطبخ" التي اقتطف منها هذا النص.

انطلاقاً من الشكل الطباعي للنصّ، نلاحظ أنه يتأسس على حوار بين شخصيتين هما : "الرجل" و"المرأة"، كما أن بعض الإشارات الموجودة في بدايته تساعد على تحديد وضعية الشخصية، مثل : (تذهب لتجلس فوق الكرسي)... فهذه المؤشرات توجهنا إلى افتراض أن النص ينتمي إلى نوع أدبي معين هو "المسرح".

إذن، ما هو الموضوع الذي يعرضه الكاتب محمد تيمد في هذا النص المسرحي؟ وما هي مظاهره الفنية؟ وإلى أي حد تمثل هذه المظاهر خصائص الخطاب المسرحي؟



يكشف الحوار الدائر في النص بين المرأة (الزوجة) والرجل(الزوج) عن مؤاخذة الزوجة لزوجها بسبب امتناعه عن بيع الفندق الذي اشتراه لها، بعد إحالته على التقاعد من عمله في القضاء، لمحدودية العائدات المالية لهذا المشروع الجديد، ومطالبتها المتكررة والملحة إياه باستبداله بعمارة يخصص شققها للكراء حتى يحقق لها بذلك ما تحلم به من حياة الرفاهية والعيش الرغيد التي تحياها قريناتها من نساء الملاكين. ومن ثمة فهي ما فتئت تصب عليه جام غضبها لاختياراته ومواقفه المختلفة (في البيت أو العمل...) التي لا ترضي تطلعاتها الاجتماعية، ولا تتفق مع طبيعة اهتماماتها المعيشية اليومية، متأففة بذلك من شقاء حياتها الزوجية، ومتاعب واجبات البيت ومسؤولياته.

ولما كانت المرأة (الزوجة)، وبدافع من حسها الاجتماعي المتطلع إلى التسلق الطبقي، تنظر بعين الغيرة والحسد إلى ما تنعم به غيرها من نساء الملاكين من بذخ ورفاه ماديين. وبالنظر كذلك إلى تراجع العائدات المالية للفندق، بسبب إغلاق البحيرة التي توجد إلى جواره، والتي كانت من قبل مهوى الصيادين والمصطافين وقبلتهم للتسلية والتماس الراحة والهدوء... لهذه الأسباب وغيرها لا تكف المرأة (الزوجة) عن مؤاخذة زوجها على نزاهة يده وإخلاصه في عمله، معتبرة ذلك مبررا كافيا لأن يعجل بإحالته على التقاعد خلافا لأستاذه المحتال الذي يفوقه سنا، ومع ذلك لا يزال في عمله يرتقي درجات سلك الوظيفة التي ينتسب إليها؛ بحيث أقام مؤخرا احتفالين بهيجين في الفندق : أحدهما كان بسبب ترقيته الجديدة، والآخر بمناسبة عيد ميلاده. وقد تكفل مالك الفندق بمصاريفهما ونفقاتهما مقابل وعد الأستاذ له بإعادة فتح البحيرة، وهو وعد لم يف به صاحبه، ممّا ضاعف من غضب المرأة (الزوجة)، وتأففها من زوجها الذي يضع ثقته في غير موضعها الصحيح.

وبالوقوف عند بعض المؤشرات النصية الخاصة بالمكان الذي تقع ضمنه أحداث المسرحية ووقائعها نجدها تنحصر في "الفندق"، وما يتعلق به من مرافق؛ كالطابق الثاني، والمطبخ، ودرج الخزانة، والمقهى... وما يجاوره من فضاءات خاصة؛ كالبحيرة التي تم إغلاقها بمبرر تراجع مياهها وضعف أسماكها...، ولما كانت هذه الفضاءات والأمكنة "حقيقية" تنطلق من واقع المسرحية وأحداثها المختلفة، فإن ثمة أحيازا وفضاءات أخرى "خيالية"؛ أي محلوم بها لا تقترن إلا بأذهان أصحابها وتطلعاتهم الشخصية الخاصة؛ كالعمارة ذات الطوابق الأربعة المكتراة شققها، بحيث تسمح إيراداتها المالية بتناسل عمارات وشقق أخرى جديدة تحلم بامتلاكها زوجة القاضي المتقاعد، وتعلن من خلالها عن رغبتها في الانتماء إلى حياة نساء الملاكين ومشاركتهن منتدياتهن وحفلاتهن الصاخبة.

أما المؤشرات الزمنية التي تؤطر أحداث هذا النص المسرحي فهي على قلتها ومحدوديتها الملحوظتين تساعد على تتبع هذه الأحداث واستكناه خصائصها وأبعادها الفنية والدرامية؛ فزواج المرأة من الرجل، مثلا، قد مرت عليه عشرون سنة، مما يسمح بالكشف عن الاختلاف الحاصل بين طباع وميول ونمط التفكير لدى الزوجين، ويعمق من طبيعة الصراع القائم بينهما، بحيث تتحول فورة الحب وحرارة المودة بينهما إلى خمود وفتور وسأم وضجر (عشرون سنة مع هذا الرجل لم أر فيها يوما واحدا أستطيع أن أبتسم له... وأنا لست أفرح لقد ضقت بك ذرعا...)، وكذلك الحال بالنسبة للرجل (الزوج) الذي أحيل على التقاعد بعد ما كان قاضيا مشهودا له بالعدل والنزاهة وعفة اليد خلافا لأستاذه الذي يفوقه سنا ودهاء، والذي لا يزال يعمل في سلك الوظيفة مداوما على عمله لشدة احتياله ومكره، بحيث لم يسلم من خبثه حتى تلميذه الذي كان واحدا من ضحاياه بحسب ما تكشف المرأة عنه في سياق محاورتها لزوجها (ولذلك عجلوا بمنحك التقاعد... وإلا فأنت أصغر من أستاذك).

ولعل ما تقدمت الإشارة إليه كفيل بأن يحدد لنا الشخصيات أو القوى الفاعلة في النص المسرحي ويكشف عن طبيعتها ومدى أهمية دورها (أو أدوارها) الفنية والدرامية بحيث يمكننا القول إن ثمة شخصيتين أساسيتين في المسرحية ؛ هما : المرأة (أو الزوجة)، والرجل (أو زوجها)؛ فالمرأة هي زوجة مدير الفندق والقيمة على أعماله وشؤونه، ملولة، ضجرة ومتأففة مما يصدر عن زوجها من سلوكات وتصرفات، متسلقة وطامحة إلى الرقي الاجتماعي والانتماء إلى فئة الملاكين، ناقمة على زوجها وغاضبة من مكر أستاذه القاضي المحتال. أما زوجها الرجل الذي هو مدير الفندق ومالكه، والقاضي الذي أحيل مبكرا على التقاعد والذي كان ضحية لنصب واحتيال أستاذه فمتمسك بمثله وقيمه، وفيّ مخلص لقناعاته الفكرية والأخلاقية (... كنت قاضيا عادلا، لقد كنت أطبق القانون ولا أخاف فيه لومة لائم، وأنا الآن مدير هذا الفندق، وأنت زوجة المدير تعيشين من عرق جبينك...). ولا نغفل الإشارة في هذا الصدد إلى شخصيات أخرى غير أساسية تم التطرق إليها على نحو عابر أو في إشارات متفرقة؛ كنساء الملاكين المنعمات بحفلاتهن وبذخهن، والأستاذ أو القاضي المحتال صديق الزوج وزبون الفندق...إلخ. وبمقدور النموذج العاملي أن يحدد طبيعة العلاقات القائمة بين هذه الشخصيات المسرحية ؛ أي مجموع العوامل في النص المسرحي ككل انطلاقاً من محاورها الثلاثة المعروفة التي هي : الرغبة، والتواصل، والصراع. فعلى سبيل المثال، إذا ما اعتبرنا المرأة (أو الزوجة) ذاتا موضوعها الرغبة في بيع الفندق واستبداله بعمارة للكراء، فإن المرسل هو الغيرة والحسد من نساء الملاكين وحفلاتهن الصاخبة (وغيرها من الاعتبارات الاجتماعية التي تسير في الاتجاه نفسه)، والمرسل إليه هو المجتمع المخملي وحياة اليسر والرفاه والبذخ، أما المعارض فهو ضعف الإمكانات المادية للأسرة، والرجل (أو الزوج) المتشبث بقيمه ومثله والرافض لكل تغيير أو تحول، وكذلك انصراف الزبائن عن الفندق (المهجور)، وإغلاق البحيرة وسوء أحوال مياهها وأسماكها، دون أن ننسى الإشارة إلى الأستاذ وما سلبه من مال الزوجين مقابل وعود كاذبة، وأخيرا يبقى المساعد هو المال المتحصل عليه إن أمكن بيع الفندق وتمت موافقة الزوج على ذلك مما يسمح للمرأة (أو الزوجة) بتحقيق ما تصبو إليه نفسها من رغبات وأمنيات. وإذا كان الحوار المسرحي القائم بين الزوجين (الرجل والمرأة) كفيل بالتعريف بمستوى وطبيعة الأفعال والحالات والوضعيات التي تخصهما في النص المسرحي، كالآتي :


• المرأة (الزوجة)
° الأفعال : الذهاب للجلوس فوق الكرسي، مؤاخذة الزوج على قراراته والتهكم والاستخفاف بسوء أفعاله وتصرفاته (العمل في القضاء، التقاعد، العلاقة بالأستاذ...إلخ...).
° الحالات : الشعور بالغضب، إبداء الضيق والتبرم، التعبير عن الملل والضجر، الميل إلى السخرية والتهكم...
° الوضعيات : الرغبة في التحول والتغيير والبحث عن نمط حياة أخرى جديدة (التحول من إدارة الفندق وتدبير متطلباته إلى حياة نساء الملاكين وامتلاك عمارات للكراء...).


• الرجل (الزوج)
° الأفعال : المبادرة إلى تحضير كأس قهوة، إدارة شؤون فندق بعد الإحالة على التقاعد من مهنة القضاء...
° الحالات : تزايد الإحساس بالقلق والتوتر والشعور بالعزلة والوحدة نتيجة التخلي عنه وخذلانه من قبل الزوجة وصديقه الأستاذ المحتال...
° الوضعيات : الحاجة إلى الاختلاء بالنفس بعيدا عن الآخرين، والبحث عما يمنحها الشعور بالرضا والطمأنينة (شرب القهوة، الاعتماد على النفس في تدبير شؤون الفندق، الوفاء للقناعات والمثل التي يعتقد بها في الحياة العملية والزوجية...).


فإنه بمقدور هذا الحوار نفسه، بكل ما يعرضه من مشاهد الشقاء وتعاسة الحياة الزوجية أن يكشف أيضا عن مستوى الاختلاف (وكذلك الخلاف) بين الرجل والمرأة في تدبير أحوالهما المعيشية اليومية، وعلاقاتهما الاجتماعية، وإمكاناتهما المالية نتيجة تباين طباعهما وقناعاتهما الفكرية والأخلاقية مما يخلق مزيدا من التناقضات، ويعمق من حدة الخلاف والتباعد بين الطرفين. ذلك أن الرغبة الجامحة للمرأة (الزوجة) في تغيير وضعها الاجتماعي والطبقي، وإخلاف الصديق المحتال أستاذ زوجها لوعده بإرجاع البحيرة إلى سابق عهدها، وكذلك الغيرة والحسد، اللذين يملكان عليها قلبها، من حياة نساء الملاكين المرفهة وحفلاتهن الصاخبة الباذخة، وتشبث زوجها بمواقفه ومثله وقناعاته حد الجمود والتصلب... هكذا نستخلص أن ذلك كله هو ما يحقق للحدث المسرحي قوة الصراع الدرامي المتوتر والمتصاعد، ويسم هذا الحوار الثنائي القائم بين المرأة وزوجها بسرعة الحركة فضلا عن الاقتضاب أو الإيجاز الذي يطبعه، والمباشرة والعفوية التي غالبا ما يقتضيها المعيش اليومي وتدبير شؤونه وتفاصيله الصغيرة.




من خلال ما سبق نستنتج أن الحوار المسرحي قد استطاع أن ينقل للمتلقي - على نحو فني ودرامي متميز - مجموعة من الأفعال والحالات والوضعيات الخاصة بالشخصيات المتحاورة في النص المسرحي (الرجل القاضي المتقاعد ومدير الفندق، وزوجته...) باعتبارها مجموعة من القوى الفاعلة ضمن إطاره الفني والتعبيري؛ ذلك أن الكشف عن الرغبة أو الإعلان عنها أساس التواصل القائم بين الزوجين المتحاورين؛ كما أن السعي إلى إنجازها ومحاولة تحقيقها تقود إلى الصراع والتوتر بينهما، ومن ثمة يتخذ هذا الصراع نفسه أشكالا ومظاهر شتى (اجتماعية، فكرية، نفسية...) تترجمها لغة هذا الحوار المسرحي، وما يميزها من سمات وخصائص ملحوظة؛ كالمباشرة والوضوح، والاسترسال أو الانقطاع، وكذلك الإيجاز والاقتضاب... إلخ. وما يتخللها أيضا من أساليب لغوية وفنية متنوعة (الاستفهام، الأمر، والتهديد،...) والتي تقتضيها طبيعة المواقف ومستوى العلاقات القائمة بين العوامل (الشخصيات) في هذا النص المسرحي ككل.


وأخيراً يمكن القول، إن هذا النص المسرحي قد نجح إلى حد كبير في التعبير عن بعض القضايا الإنسانية، وما يرتبط بها من قيم اجتماعية ونفسية وفكرية، ومعالجة ذلك كله في قالب مسرحي يتميز بالتشويق والإثارة، وذلك من خلال توظيف الوسائل الفنية والتعبيرية المناسبة.











حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-