القوى الفاعلة في رواية اللص والكلاب | نجيب محفوظ

القوى الفاعلة في رواية اللص والكلاب لـ نجيب محفوظ

القوى الفاعلة في رواية اللص والكلاب لـ نجيب محفوظ



تقدم لنا الرواية ثلاثة أنماط من القوى الفاعلة: قوى فاعلة إنسانية تحمل أسماء أعلام تجعلها تنتمي فعلا إلى عالم الإنسان. غير أن هذه القوى الفاعلة نفسها تقدم إلينا أحيانا أخرى موسومة بصفات حيوانية تسلب عنها بعدها الإنساني لتلحقها بعالم الحيوان بسبب الأفعال التي تضطلع بها، وذلك بناء على المواقف التي تتخذها منها بعض القوى الأخرى. وهناك ثالثاً وأخيرا قوى فاعلة حيوانية محض هي الكلاب البوليسية.

-             قوى فاعلة إنسانية

نقسّم هذه الشخصيات الإنسانية بحكم نوعية الأفعال التي تقوم بها في الرواية، وبحسب موقعها في صنع الأحداث أو موقفها منها، أو درجة حضورها في الرواية.
الشخصية المحورية: يمثّل سعيد مهران قطب رحى الرواية ومحورها المركزي. جعله السارد مدار كلّ الأفعال التي تتحقّق في الرواية، وقدّم لنا إفادات أخبارا كثيرة عنه، وتتبّع مختلف أطوار حياته في مفاصل الرواية برمتها.
إنه ابن بواب عمارة الطلبة العمّ مهران. من أسرة فقيرة، حاول أبوه تزويده بتربية دينية، لذلك كان يصطحبه معه في زياراته المتعددة إلى مقام الشيخ الجنيدي حيث يجتمع الناس في حلقات الذكر الصوفي. لم يكن يغري سعيدا كثيرا هذا العالم الذي كان يثير إعجابه ولا يتعدّاه إلى الانخراط فيه.

تابع دراسته حتى شارف الجامعة، ولكنه لم يدخلها لضيق ذات اليد. لعب رؤوف علوان دورا كبيرا في تعليمه لأنه هو الذي أقنع والده بضرورة تعليمه. وساهم في توجيهه، وكان له خير معين عندما مات أبوه، وخلصه من قبضة الطالب الذي قام بسرقته.
هاجر سعيد مهران بعد ذلك بيت الطلبة، سعيا وراء الرزق، فعمل في السيرك، وتعرف على نبوية التي أحبها بعمق وصدق، وتزوجها وأنجبت سناء. احترف السرقة فكثرت ثروته وصار له رجال وأتباع من بينهم عليش سدرة.
انتهى إلى السجن بسبب وشاية عليش وقضى فيه أربع سنوات. وخلال فترة السجن تطلقت منه نبوية لتتزوج عليشاً الذي صارت إليه كل أملاك سعيد مهران أتباعه. لذلك عندما خرج من السجن، وفشله في استعادة سناء وممتلكاته، لم يكن عنده سوى همّ واحد: الانتقام من عليش ونبوية وعلوان الذي تغير كثيرا.
ارتكب جريمتي قتل خطأ لأنه بدل قتل غريميه قتل شخصين لا علاقة لهما به. طارده البوليس وانتهى مستسلما بلا مبالاة.


سعيد مهران بطل هذه الرواية له تكوين ثقافي (شبه مثقف)، أدمن قراءة الكتب، وكان يرى، تحت تأثير رؤوف علوان، أن السرقة التي يقوم بها مشروعة لأنها موجهة ضد الأغنياء الذين كانوا يغتصبون خيرات الوطن. لكنه وهو يشجعه كان ينبهه إلى القانون الذي لا يرحم.
إن سعيد مهران شبه المثقف مقتنع بأن اللصوصية عمل مشروع لأنه عمل "نضالي"، ويواصل سرقاته حتى ينتهي سجينا. لقد اختار المؤلف لبطله اسم "سعيد" للدلالة على معنيين متناقضين: فهو سعيد بعمله لأنه مقتنع بأنه موجه ضد أعدائه الطبقيين، لكنه "شقيّ" لم يجر عليه هذا الفعل سوى التعاسة. وهو مهران لأنه ماهر وشاطر في سرقاته وقدرته على التمويه والهرب من السلطة لولا الوشاية، ولكنه غير ماهر، بسبب فشله في قتل خصميه من جهة، ووقوعه بين أيدي رجال البوليس على إثر خطأ قاتل (نسيان البدلة).

-             الشخصيات الأساسية

يمكننا تقسيم هذه الشخصيات بحسب موقعها وموقفها من الشخصية المحورية قسمين اثنين: الخصوم والمتعاطفون.

الخصوم: ونجد ضمن هذه الفئة: نبوية وعليش وعلوان.

نبوية: يتيمة وفقيرة، كانت تشتغل خادمة عند الست التركية العجوز، وكانت ذات جمال أخاذ. أحبها سعيد مهران كثيرا وكان صادقا في حبها، وفي الفصل العاشر توقف متأن لوصف نوعية العلاقة التي تجمع بينهما. لكنها خانت زوجها بعد دخوله السجن، وتزوجت من عليش سدرة.
عليش: من أتباع سعيد مهران أيام عزه، يأتمر بأوامره ويتلقف ما يتبقى على مائدته. يصفه مهران بأنه لم يكن إلا "شخصا عابرا لا قيمة له"، وفي علاقته به، يؤكد سعيد "كنت البطل، وكان عابد البطل يحبني ويتملقني ويتجنب غضبي ويلتقط فتات العيش من كدي وشطارتي". ص 74/75. إن عليش ليس سوى خادم مطيع لسيده. وفي علاقته بنبوية كانت مبنية على الاحترام والخوف من سيده. لكن كما تغيرت نبوية تغير عليش، فوشى به إلى البوليس وسهل عليهم مأمورية الإمساك به بعد أن دوخهم بمهارته وشطارته. وبعد أن كان "التابع" صار "المعلم عليش"، فتزوج زوجة المعلم سعيد مهران، وسطى على أملاكه. لقد تغيّر عليش وانتهى في زمرة أثرياء البلد الذين يحرسهم البوليس، ويأتي إلى مساندتهم المخبرون.

رؤوف علوان: عرفه سعيد مهران عندما كان طالبا ريفيا. يتابع دراسته في الحقوق وهو ممتلئ حماسا للتغيير الثوري. لعب دورا كبيرا في تشكيل شخصية سعيد، لذلك أحبه كثيرا، تماما كحبه للشيخ الجنيدي، وظل يرى فيه القدوة دائما. لذلك عندما خرج من السجن، كان يعلق آمالا كبيرة عليه. ولم يتوجه إليه وهو حانق عليه، كما كان عليه الأمر مع عليش ونبوية.
لكنه عندما اطلع على كتاباته في الجريدة، قبل أن يلقاه، استشعر تغير صاحبه لأن الأفكار التي يحملها لا علاقة لها بما صار يكتبه حاليا.
وفعلا سيتأكد مهران من التغير الكبير الذي لمسه في شخصية علوان وحياته بعد اللقاء: مكتب فخم، مقالات تافهة، قصر بالغ الضخامة، أفكار تبريرية.
إن ما يجمع بين هذه الشخصيات الثلاث هو الخيانة والانتهازية. لقد كانوا جميعا بالنسبة لسعيد مهران الحياة والأمل، لكن انهار كل شيء، بسبب تغيرهم، ولذلك لا يمكن أن يكونوا عنده سوى أعداء.
إن الغرماء ثلاثة لكن الخصوم كثيرون. والشخصيات الأخرى التي تدخل في نطاق الأعداء، الذين لمح إليهم في حديثه مع الشيخ الجنيدي، فهم كل من يشترك مع أعدائه الفعليين في الصفات والأفعال: إنهم من جهة أتباع عليش، والأغنياء الذين أثروا على حساب الشعب، والبوليس ورجال الأمن.

 المتعاطفون: كما كان الأعداء الحقيقيون ثلاث شخصيات، كان المتعاطفون معه ثلاثا: الشيخ الجنيدي، والمعلم طرزان، ونور.

الشيخ الجنيدي: شخصية صوفية، تقيم في مقام يرتاده المريدون للصلاة، وتقام فيه، بين الفينة والأخرى، حلقات للذكر. نذر الشيخ حياته للعبادة واستقبال الذاكرين. له ثقافة دينية، وحب رباني، باع دنياه بآخرته. مقامه بسيط، وهو مفتوح أبدا لم يتغيّر فيه شيء.
تعرف سعيد مهران إلى الجنيدي رفقة أبيه وهو صغير السن، فظل يحبه ويجله، وإن كان غير قادر على فهمه عكس أبيه تماما. وجد عنده الأمان الذي افتقده بعد خروجه من السجن، وكان يأتيه، بين الفينة والأخرى، كلما ضاقت به السبل.
كان سعيد يشكو همومه إليه، وعندما يخاطبه الشيخ ناصحا، لم يكن يتبين معاني كلامه. لم يتغير الشيخ الجنيدي أبدا. إنه شخصية نمطية ثابتة، كما تركه وجده، ولقي عنده كل الحنان والأمان اللذين لم يلقهما عند رؤوف علوان أو عليش أو نبوية.

المعلم طرزان: صاحب المقهى، وهو أيضا لم يتغير. شهم وابن أصول. فرح كثيرا لخروج مهران من السجن، وظل محافظا هو ورجاله على العلاقة القديمة التي ربطتهم به. وعندما قدم عنده باحثا عن المسدس، نفذ طلبه في الحال، ولما أراد الاعتذار عن عدم قدرته على دفع الثمن، أبى عليه المعلم طرزان أن يضطره إلى ذلك.
كان مهران يلتجئ إلى طرزان في أوقات الشدة، ولقد نبهه مرات إلى وجود المخبرين، وطالبه بالاحتياط. إنه مثال للأمانة وحفظ العشرة والمودة. لم يتغيّر موقفه من مهران تماما كالشيخ الجنيدي، وحتى مقهاه ظلت على حالها.

نور: بائعة هوى مغلوبة على أمرها. أحبت سعيد مهران حبا حقيقيا ولكنه كان يلتفت إلى نبوية، وحتى الهدايا التي كانت تعطيه إياها كان يهبها لنبوية. حافظت على حبه، وفرحت لخروجه من السجن، قدمت له بيتها الذي تستأجره ليكون مأوى له عندما اشتدت عليه المطاردة، وتكفلت بجلب الطعام له. ساعدته بحيلتها على سرقة حافظة نقود ابن صاحب مصنع الحلوى وتوظيف سيارته. عملت المستحيل من أجل ثنيه عن ركوب رأسه، وطلبت منه الهروب للزواج وبدء حياة جديدة. وظلت مخلصة له حتى اختفائها الأخير الذي لم يعرف عنه سعيد شيئا. وبفقدانها افتقد النور الذي كان يفتح له كوة في الظلام، وبغيابها انتهى اخيرا إلى العتمة.

هناك شخصيات أخرى من عامة الناس كانت تتعاطف مع سعيد مهران، وقت إنجازه الجريمتين، ومطاردة البوليس له، وإن كان من بينها من يعيب عليه قتل الأبرياء.


شخصية واحدة، من بين كل هذه الشخصيات، يحبها سعيد، ولا تبادله الحب نفسه لأنها لا تعرفه، وكان رهانه قويا عليها لتغيير مجرى حياته: إنها ابنته سناء. لقد استحوذت على مجامع فكره وقلبه، وكان في كل اللحظات التي يتأزم عليه فيها الوضع يستحضرها، وهو يفكر في مستقبلها. ووقع له الشيء نفسه عندما اختفت نور: لقد انتابته هواجس شتى، وأحس في أعماقه أنه يحبها، وغضب كثيرا لما يمكن أن يعترضها.

إن اصطفاف القوى الفاعلة الإنسانية في علاقتها بالبطل يرتهن بصفات متناقضة: الخيانة مقابل الأمانة، والتغير (من وضع إلى آخر مختلف) مقابل اللاتغير، والغنى مقابل الفقر، والمكانة الاجتماعية مقابل الحياة الهامشية. وتبعا لذلك فالشخصيات المعادية لمهران، والتي يبادلها العداء هي شخصيات تجمع بينها: الانتهازية والخيانة. كما أن الشخصيات التي يتبادل معها المودة تضمها: الأمانة والمحبّة.
تعليقات