منهجية تحليل نص نقديّ: المنهج البنيوي : تحليل نصّيٌّ لقصيدة ليلٌ وفرسان، ع.الله شريق


منهجية تحليل نص نقديّ: المنهج البنيوي




منهجية تحليل مقالة نقديّة : المنهج البنيوي


تحليل نصّيٌّ لقصيدة ليلٌ وفرسان، ع.الله شريق (ص246/ كتاب الممتاز)؛


للسنة الثانية من سلك الباكلوريا – مسلك الآداب والعلوم الإنسانية


                                                   
ظهر المنهج البنيوي كردّ فعل ضد المناهج النقديّة الأخرى التي اهتمت بالارتباطات والعلاقات الخارجيّة للأدب أكثر مما اهتمت بالأدب نفسه، ويرجع الفضل في ظهور هذا المنهج إلى التطورات الكبرى التي تَحققت في مجال اللسانيات؛ ذلك العلمُ الذي يُعنى بدراسة اللغة في مختلف مكوناتها ومستوياتها الصوتيّة والمعجميّة والتركيبيّة والدلاليّة. ونظراً لَجدّة هذا المنهج وفعاليته في التحليل انجذب إليه كثيرٌ من النقاد العرب وطبّقوه في دراساتهم للنصوص الأدبيّة.
وقد ظهرت الإرهاصات الأولى للمنهج البنيوي منذ مطلع القرنِ العشرين، فانبثق هذا المنهج، تحديداً، من حقل الدراسات اللغويّة التي يرجع الفضل فيها للعالمِ اللغويّ السويسري "فردناد دوسوسير"، من خلال كتابه "محاضراتٌ في علم اللغة العام".إلا أنَّ المنهج البنيوي لم يبق حبيس الدراسة اللسانيّة، بل سرعان ما انتقل إلى عالم الأدب؛ وهنا نؤكد أن أول من طبّق البنيوية اللسانيّة على النصّ الأدبي في النقد الغربي هما الناقدان: "كلود ليفي شترواس" و"رومان جاكبسون"، وذلك في دراستهما لقصيدة "القطط" لـ"شارل بودلير"، بعذ ذلك ستطبق البنيوية، بشكلٍ واسعٍ وأدق، مع "رولان بارث"، "كلود بريمون"، "تزفيتان تودوروف"، "جيرار جنيت" و"غريماس".
أما في العالم العربي، فلم تظهر البنيوية في الساحة الأدبيّة إلاّ في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من خلال الانفتاح على الثقافة الغربيّة عبر الترجمة والدراسة في الجامعات الأوروبيّة، فكانت البدايةُ عبارة عن كتب مترجمة ومؤلفات تعريفيّة للبنيويّة لكلّ من "فؤاد زكريا"، "عبد السلام المسدي"، "كمال أبوديب"، "محمد برادة"، "عبد الفتاح كيليطو"، والناقد المغربي عبد الله شريق الذي نحن بصدد دراسة نصّه الموسوم بعنوان "تحليل نصّيٌّ لقصيدة الليل والفرسان" والمقتطف من كتابهِ "في حداثة النص الشعري".
ويظهر من خلال ملاحظتنا لعنوان النّص والفقرة الأولى منه أنّ الناقد استعمل عبارة "تحليل نصيٌّ"، بمعنى آخر؛ تحليلٌ يدرس النص باعتبار أبنيته الداخليّة دراسةً بنيوية، وهذا مؤشرٌ يجعلنا منذ البداية نفترض أننا بصدد دراسةٍ نقديّة اعتمد فيها الناقد المنهجَ البنيوي. ومن هنا نتساءل: ما القضيّة النقديّة التي يعالجها النص؟ ما مظاهر المنهج البنيوي وكيف طُبِّقَ في دراسة قصيدة "الليل والفرسان"؟ وما الخصائص المفاهيمية والمنهجيّة والحجاجيّة التي توسل بها الناقد في بناء نصه؟



لقد اتخذ الناقد قصيدة "الليل والفرسان" للحسين القمري متناً لدراسته. وقد استهل هذه الدراسة بإنجاز قراءة أولى كشفت عن مستوى الدلالة المباشرة، التي تثوي في القصيدة، وتتراءى في صورة الواقع العربي المعاصر الذي يرزح تحت وطأة الظلاميّة والاستكانة. ولكن هذه الصورة لم تتأكد، ولم تأخذ مشروعيّتها إلا بعد أن تضافرت كلُّ مستويات النص على دعمها وتأييدها؛ أي من خلال تفكيك ودراسة مكوناته الإيقاعيّة والمعجميّة والتركيبية الدلاليّة.
فعلى المستوى الإيقاعي درس الناقد التفعيلة وتنويعاتها المختلفة، كما رصد بعض الترديدات الصوتيّة، وتكرار بعض التقابلات التركيبية، والإيقاعات الرتيبة والمتكررة التي وفّرتها بعض القوافي المتناظرة، ثم تكرار بعض الأصوات المتسمة باللين والرخاوة والهمس.
وعلى المستوى المعجمي قسّم الناقد معجم النص إلى حقول دلاليّة، مبرزاً مختلف العلاقات التي تربط بينها. أما على المستوى التركيبي، أكد هيمنة الجمل الفعليّة والخبريّة القصيرة، وكثرة أفعال المضارع الدالة على الحاضر، والمسندة إلى ضمير الغائب، ثم تكرار وترديد بعض صيغ الحال والنعت والتعجب. بينما في مستوى بينة الصورة رصد الناقد هيمنة الصورة الكليّة الكبرى (صورة الليل)، كما رصد، أيضا، الصور البيانيّة الجزئيّة، وبعض الصور الرمزيّة الأخرى، مع إبراز مختلف العلاقات التي تربطها بالصورة الكبرى.
ويبدو من خلال هذه البنى أن الناقد طبّق المنهج البنيوي في دراسته للنص الشعري. وقد تم إنجاز هذه الدراسة عبر مرحلتين أساسيتين:
-             مرحلة التفكيك: والمقصود بها تفكيك النص إلى تمفصلاته الشكليّة. وذلك عبر تشريحه إلى مستويات لغوية مختلفةٍ. ويمكن تحديد هذه المستويات اللغوية والمصطلحات المرتبطة بها في الجدول التالي:
المستوى الإيقاعي
التشكيلات الإيقاعيّة، تفعلية "متفاعلن"، الحركات، تفعيلة الكامل، الترديدات الصوتيّة، التكرار، القوافي المتناظرة، اللين، الرخاوة، الهمس، الحقل الصوتي.
المستوى المعجمي
حقول دلاليّة، الألفاظ، الكلمات، الأوصاف، الحقل الاجتماعي، الوجداني/ الديني/ التاريخي/ الجغرافي.
المستوى التركيبي
الجملة الفعليّة، الجملة الخبريّة القصيرة، أفعال الماضي، الجمل الإنشائيّة، أفعال المضارع، صورة ضمير الغائب، الجملة الاسميّة، صيغ الحال والنعت والتعجب.
مستوى بنية الصورة
الصورة الكليّة، صورة الليل، الصور البيانيّة الجزئيّة، الصور الرمزيّة، صورة الفرسان، صورة النهر، الرمز، المشابهة، التجريد، الإيهام، الرموز الدينيّة والتاريخيّة والحضاريّة.

-             مرحلة التركيب: وفيها يتمُّ الربط بين المستويات السابقة لاستخلاص نتيجة معينة عن طريق التأويل. وفي هذا توصل الناقد إلى أنّ المستويات كلّها قد أسهمت في تجسيد صورة الليل كرؤيا رمزيّة: المستوى الإيقاعي ببطئه وقصرهِ وتثاقلهِ، والمستوى المعجمي بحقوله الدينيّة والتراثيّة والواقعيّة وبعلاقاته التوالديّة والتضاديّة، والمستوى التركيبي بهيمنة زمن الحاضر وضمير الغائب وجملة الخبر، والمستوى الرمزي بصورة الظلام والحزن والصمت.



تبعاً لذلك، فقد وظف الناقد، في هاتين المرحلتين، دزينة من المفاهيم والمصطلحات ذات الطابع الإجرائي التحليلي، والمرتبطة بالمنهج البنيوي. إما بشكلٍ صريحٍ أو ضمنيٍّ. ويمكن استعرض هذه المفاهيم كالتالي:
·                  مفهوم البنية: وذلك باعتباره أن النص الشعري يمثل بنية كبرى، وهذه البنية الكبرى تتكون من بنيات صغرى هي العناصر اللغويّة المشكلة لنسيجه، وكلُّ بنية صغرى تتكون من بنياتٍ جزئيّة: كالتفعلية والقوافي والأصوات بالنسبة للإيقاع. ثم الحقول الدلاليّة والألفاظ بالنسبة للمعجم، والجملة الفعليّة والجملة الخبريّة القصيرة وأفعال المضارع وضمير الغائب بالنسبة للتركيب، والتشبيه والاستعارة والرمز بالنسبة للصورة.
·                  مفهوم النسق أو النظام: ويظهر ذلك، أولاً، من خلال اعتبار النص منظومة أو شبكةً من المستويات اللغويّة منها ما هو إيقاعي، ومنها ما هو معجمي، ومنها ما هو تركيبي، ومنها هو دلالي. كما أنّ البناء الداخلي لكلّ مستوى يتم عبر منظومة من العلاقات التي تجمع بين أجزائه، كعلاقة التوالد والتكامل، وعلاقة التبادل والتضاد وعلاقة التكرار والترادف، وعلاقة الترابط والتداعي...
·                  مفهوم السياق: ويتطلب هذه المفهوم قراءة النص في إطار الرؤيا الشعريّة، وهي رؤيا لا توجه قصيدة "الليل والفرسان" فقط، وإنما توجه ديوان "كتاب الليالي" ككل. ومفاد هذه الرؤيا انتقاد الشاعر للحاضر البئيس والمرفوض، وتطلعه إلى المستقبل السعيد والمأمول.
ومن هنا، فإنَّ رغبة الناقد في توضيح أفكاره ومحاولة إقناعنا بصحتها، جعلتهُ يسلك استراتجيّة منهجيّة وحجاجيّة وأسلوبيّة تنهض على ما يلي:


-       الارتكان إلى استراتجية منهجية تعتمد التدرج المنطقي في  عرض الأفكار: وذلك بالانطلاق من فرضيّة عامةٍ مفادها أنّ الشاعر عبّر عن الظلاميّة التي تسود المجتمع العربي المعاصر، ثم تتبع حضور هذه الظلاميّة (الليل) وهيمنتها في مختلف مستويات القصيدة (الإيقاع، المعجم، التركيب، الصورة)، ليؤكد في الأخير صحة الفرضيّة التي انطلق منها في شكل نتيجة نهائيّة.
-       توظيف وسائل البرهنة والتفسير: كالاستشهاد الذي استدل به الناقد على صحة استنتاجه (يقول أحد المحدثين فيما يتعلق بالصفات الإيقاعيّة المرتبطة بتفعيلة بحر الكامل) والاستنتاج الوارد في آخر النص (وبهذا يتكامل تحليلنا للقصيدة...).
وفضلاً عن الوسائل السابقة تتعزز قوة النص الإقناعيّة بتوظيف الناقد لغةً تقريّرية مباشرة بعيدة عن الإيحاء، خاليّة من الكلماتِ الصعبة، ومن المحسنات البديعيّة، وهذا ينسجم مع طبيعة النص الذي يتميز بالسمة العلميّة والموضوعيّة في معالجة الأفكار، كما ينسجم مع مقصديّة الناقد الذي يهدف إلى تبسيط الفكرة وتوضيحها للمتلقي حتى يتسنى له فهمها واستيعابها والاقتناع بصحتها.



وبالإضافة إلى الطابع التقريري، تتميّز لغة النص بالاتساق كذلك، ويمكن تحديد مظاهر الاتساق من خلال مجموعة من الأدوات؛ التكرار المعجمي الذي ترددت فيه الألفاظ والعبارات التالية: (النص، القصيدة، الشاعر، المستوى الإيقاعي، المستوى المعجمي، المستوى التركيبي، المستوى الدلالي، الصورة، الليل والفرسان...)، والإحالة التي تتم تارة بواسطة الضمير (دعمها، تأييدها...)، وتارة بواسطة اسم الإشارة (لهذه القصيدة، تلك الرؤيا...)، والوصل الذي يكون تارة بواسطة حروف العطف، وتارة بواسطة حروف أخرى مثل (لكن، من خلال، هكذا، بهذا...).
وبالموازة مع الاتساق يتميز النص كذلك بالانسجام، حيث إن الناقد يفترض في القارئ توفره على إمكانيات إنجاز قراءة منسجمة اعتماداً على ما لديه من معرفةٍ خلفيّة، فهو يفترض، مثلا، معرفتَهُ، بالمناهج النقديّة، وبالمنهج البنيوي تحديداً، كما يفترض معرفتهُ بالشعر والشعر المغربي المعاصر أساساً، وبهذه المعرفة الخلفيّة يستطيع القارئ فهم النص وتأويله وتبسيطه عن طريق ملء الفراغات وردم الفجوات وتقدير المسكوت عنه.



في ضوء ما سبق، يتأكد أنّ الناقد اعتمد مقاربة علميّة موضوعيّة في دراسته النص الشعري؛ فهو لم يكتف بشرح مضامينه، ولم يقدم بصدده انطباعات شخصيّة أو أحكامَ جاهزة. وإنما استعمل أدواتٍ إجرائيّة في التحليل، مرجعه في ذلك الدراسات اللسانيّة التي تشكل أساس المنهج البنيوي. أما بخصوص تطبيق هذا المنهج، فقد تطلب اتباع مرحلتين متضافرتين هما: مرحلة التفكيك التي تم فيها تشريح النص إلى مستويات لغوية مختلفة، ثم مرحلة إعادة التركيب التي تم فيها الربط بين المستويات السابقة لاستخلاص نتيجة معينة عن طريق التأويل. وخلال المرحلتين السابقتين عمل الناقد على تفعيل المنهج البنيوي باستثمار مجموعة من المصطلحات التي تشكل جهازه المفاهيمي؛ كمفهوم البنية، ومفهوم النسق، ومفهوم الدال والمدلول، ومفهوم السياق. ولتوضيح أفكاره وإقناع المتلقي بصحتها سلك استراتيجيّة منهجية وحجاجية وأسلوبيّة تقوم على مجموعة من الوسائل: التدرج المنطقي، و الاستشهاد والاستنتاج، بالإضافة إلى اللغة التقريريّة المباشرة التي تتميز بمجموعة من مظاهر الاتساق، كما أنه لتحقيق قراءة منسجمة راهن على الخلفيّة المعرفية للمتلقي الذي يفترض أن يعتمد مجموعةً من الإجراءات والمبادئ لفهم النص وتأويله.
لقد أثبت الناقد، بالفعل، أن المقاربة البنيوية تركزّ على جوهر الإبداع الأدبي. كما أثبت أن مراحل التحليل تفضي إلى نتائج موضوعيّة تتضافر جميع المستويات اللغوية في تأكيدها. إلا أنه رغم ذلك، يمكن القول إنَّ المنهج البنيوي ليس وحده كافياً للإحاطة بالظاهرة الأدبية من جميع جوانبها؛ إذ إن هذه الظاهرة هي شبكة متداخلة من العوامل التاريخيّة والاجتماعيّة والنفسيّة، وليست نسيجا لغوياً فقط، ولهذا يستحسن أن تنفتح البنيوية على المناهج النقديّة سعيا إلى تحقيق دراسة تحيط ما أمكن بشتى جوانب العمل الأدبي.









حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-